إن حدثا عميق الدلالة عظيم الأثر كثورة الخامس والعشرين من يناير لا يمكن سبر أغواره دون الوقوف على كافة التفاصيل التى سبقته وتزامنت معه وتلته, وانتصارنا لحدث كهذا وإيماننا بنبل أهدافه لا يجب أن يمنعنا من قراءة مختلف جوانبه ونحن نسطر تاريخا نريد أن تحفظه ذاكرة أبنائنا.

وأنا كواحد من جيل حلم بثورة شعبية تصحح الأوضاع فتعيد للمصرين كرامتهم وتعيد لمصر مكانتها، كنت ممن اختاروا الانحياز لهذا التغيير الثورى الكبير، لكنى حاولت ألا يمنعنى انحيازى من إعادة قراءة هذا الحدث العظيم، خاصة بعد مرور أربع سنوات تكشفت أمامى خلالها بعض الأمور فمنحتنى قدرة أكبر على التحليل، وأنا على ثقة أن مزيدا من المعلومات سيمنحنا جميعا قدرة أكبر على فهم ما جرى، لكن على الأقل فى هذه اللحظة التى نحتفل فيها بالذكرى الرابعة لثورة يناير أقول لكم:

إن مكونات المشهد الثورى فى يناير لم تكن شعبية خالصة ولم تكن أيضا وطنية خالصة، فقد كانت خليطا من أربعة عناصر توفرت لكل عنصر منها ظروف موضوعية ساهمت فى إنضاج مشهد التغييرالكلى على الرغم من أن الظرف الذاتى لكل منها لم يكن قادرا لا على إحداث التغيير بمفرده ولا على وضع هذا العنصر أو ذاك فى صدارة المشهد طول الوقت، فكانت النتيجة أن تبدلت صدارة المشهد بين العناصر الأربعة في اليوم التالى لإجبار الرئيس الأسبق حسنى مبارك على الخروج من المشهد، وحتي هذه اللحظة التى نحتفل فيها بالذكرى الرابعة للثورة ما يعنى أن مشهد التغيير مازال قابلا للاستدعاء، ولن يمنعه إلا الانتصار الكامل للأهداف التى من أجلها تفجر الفعل الثورى.

أما مكونات المشهد الثورى فكانت على النحو التالى:

قوى وطنية مارست نضالا مستمرا لسنوات طويلة أخطأت وتعثرت لكنها لم تخن أحلام الشعب وتطلعاته فى حياة كريمة تتحقق باستقلال وطنى كامل يربط قضية العدالة الاجتماعية بقضية الاستقلال الوطنى، وهذه القوى ليست حكرا على تيار بعينه، لكنها أيضا كانت أقرب لسبيكة وطنية معجونة بطين مصر، وقد مارست هذه القوى كل أشكال الاحتجاج والمقاومة على مدار عقود وإن بقيت قليلة العدد عاجزة عن مد جسور الثقة والتواصل مع جماهير أنهكتها الظروف الصعبة، فكانت تعبر عنهم لكنها غير قادرة على الفوز بثقتهم إلى الحد الذى يجعل الجماهير مقتنعة بالمضى خلفها فى طريق ثورى طويل.

وأما العنصر الثانى، فكان لقوة وطنية أيضا لم تكن لترضى بسيناريو التوريث الذى كان سيدفع بنجل الرئيس إلى سدة الحكم مع ما يحمله هذا من إهانة كبرى لقيم الجمهورية التى رسخت شرعيتها وشعبيتها من ثورة يوليو ونصر أكتوبر، وما يعنيه أيضا من تراجع حضورها وانحسار دورها كحارس وطنى أمام جوقة الحاكم الجديد وطبقته التى كانت قاب قوسين أو أدنى من إحكام قبضتها على كل مفاصل السلطة وكامل مصادر الثروة.

ومن هنا تفاعل الذاتى بالموضوعي داخل المؤسسة العسكرية لينتج قوة مستعدة للتفاعل داخل المشهد الثورى، ولكن وفق قواعدها التى تريد تأمين عدم خروج الفعل الثورى عن الإطار المحافظ الذى لا يربك شبكة العلاقات الداخلية والإقليمية والدولية للدولة.

وإذا كان العنصران الأوليان وطنيين، فإن العنصرين الثالث والرابع يمكن أن نطلق عليهما المكون الأجنبى داخل المشهد الثورى وأعنى بهما الآتى:

مكون أجنبي يؤمن بأن العالم أصبح قرية صغيرة وأن التغيير الثورى فى أى بلد يمثل زادا ثوريا أمميا يمنح الساعيين لإحداث التغيير أفكارا ومواقف وتكتيكات جديدة تساعدهم فى إنجاز مهمتهم الثورية وهم فى سبيل بلوغ هذه الغاية لا مانع لديهم من التواصل مع كل القوى الخارجية طالما أن غايتهم نبيلة.

وهؤلاء يمثلون الجيل الأكثر شبابا داخل مكونات المشهد الثورى والقطاع الأكثر إطلاعا واتصالا بالعالم الخارجى وقد وفر ظهور وسائل ومواقع التواصل الاجتماعى الإلكترونية نافذة لا تغلق أمامهم ونهرا جاريا من الأفكار والخطط التى استفادوا منها وكانت رافدا مهما من روافد القدرة على الحشد والتوجيه لاكتمال المشهد الثورى، وهؤلاء كانت لديهم قناعة بأن المعارضة التقليدية بأجنحتها الثورية والإصلاحية لن تستطيع إتمام التغيير، فخلقت هذه القناعة عائقا أمام التواصل معها، لكنها لم تصل إلى درجة القطيعة الكاملة.

أما العنصر الرابع من مكونات المشهد الثورى، والثانى من المكون الأجنبى داخله فهى لجماعة مثلت امتدادا لأفكار ومواقف قوى أجنبية لم تكتف بما قدمه لها نظام الرئيس مبارك، بل أرادت أن تكون مصر خالصة لها بنخبتها السياسية والاقتصادية، وأن تصنع بنفسها ليس نظاما تابعا وحسب، بل نظاما فاشلا يبقى تحت السيطرة ولا يرتبط بأى قوة وطنية وجماهيرية.

ومن هنا تصارعت العناصر الأربعة مع الاحتفاظ بقدر هائل من الفروق فى الحضور والتأثير داخل المشهد الثورى لصالح العنصرين الأولين. أعتقد أن المعتصمين فى التحرير أيام الثورة كانوا يعرفون أن العناصر الأربعة كانت حاضرة، وأن وسائل الإعلام المحلية والدولية كانت تعكس هذا الحضور, لكن ثقل هؤلاء جميعا لم يكن قادرا على إحداث التغيير لولا أن الجماهير الغاضبة الساعية لحياة أفضل انحازت للتغيير على أمل أن يأتي لها بما كانت تحلم به فى الحياة الكريمة ولهذا حديث آخر.