كنت طفلا لم يتجاوز عمري السنوات الست حين عادت عمة والدتي الأقرب لقلبها "إنصاف" من رحلة الحج، اصطحبتني أمي إلى منزل العمة الواسع ببركة المحبة والحنان اللذين كانا يفضيان على زائريها من الأهل والجيران، وبوجه باسم استقبلتنا وهي تعانق أمي التي بكت فرحة بعودتها، ثم احتضتني وقبلتني وهي تدعو لي ولإخوتي بالخير والبركة.

كان هذا قبل أكثر من 4 عقود، غير أن ذاكرتي لا تزال محتفظة ببعض تفاصيل هذا اليوم، تمر أمام عيني كشريط سينما بالصوت والصورة كلما "هل هلال" شهر ذي الحجة، وفي أذني صدى صوت مبهج وشجي في آن، يردد:

"يا حاجّة يا حاجّة

يا أم الشال قطيفة

رايحة فين يا حاجّة؟

رايحة أزور النبي الغالي

والكعبة الشريفة"

كانت أمي تحب ترديد هذه الأغنية، وفي كثير من الأحيان كانت تبكي وهي تغنيها بقلب معلق بزيارة "النبي الغالي والكعبة الشريفة"، حتى كتب الله لها ولوالدي -رحمهما الله- حج بيته المعمور حين استطاعا إلى ذلك سبيلا، ورغم أنهما تمتعا بالحج والعمرة عدة مرات فإنهما كانا مع كل موسم حج يتابعان البث المباشر لأداء المناسك بشوق بالغ وعيون تفيض من الدمع.

تهفو قلوب المسلمين في شتى أصقاع الأرض للحج والعمرة، لكن المشهد عند المصريين يبدو ذا طابع خاص، يكسو الركن الخامس برداء زاهية ألوانه، تجمعت خيوطه قبل آلاف السنين، حين كانت هناك أمنا هاجر المصرية، وولدها إسماعيل "بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم".

المهندس باخوم

كان قبطيا نشأ عاملا يرافق البنائين حتى تعلم صناعتهم وأحسن فنونهم، فذاع صيته في قريته وتجاوزها إلى القرى والمدن المجاورة، يبني بيوت الميسورين ويشيد قصور الأثرياء، ولم يقنع باخوم بذلك بل تجاوز الأمر إلى خارج حدود مصر، فكان يرتحل بعيدا فيقضي شهورا -وربما أعوام- سائحا في البلاد، ثم يعود إلى قريته، بخبرة أوسع وثقافة أشمل.

في إحدى رحلاته كان قاصدا نجران إذ أراد أن يبني لأهلها كنيسة، وحين وصل مكة قرر أن يمكث بها قليلا قبل أن يواصل رحلته إلى مقصده، وكان له في مكة أصدقاء من قريش، طلب منه أحدهم أن يبني له بيتا ففعل وأحسن البناء، وذاع صيت باخوم في مكة ببنائه عدة بيوت لعدد من أثريائها، كان ذلك قبل البعثة النبوية بنحو 20 سنة، في هذه الأثناء فكرت قريش في إعادة بناء بيت الله الحرام، لكنهم كانوا يهابون القرار ويخشون الإقدام عليه، وبعد أخذ ورد ونقاش مطول وإشارات سماوية، اطمأنت قلوب سادات قريش -وفى القلب منهم بنو هاشم- لقرار إعادة البناء، لكن لمن توكل تلك المهمة المقدسة؟

إنه باخوم ولا أحد غيره، فتعهد إليه سادات قريش مهمة إعادة البناء، فيعمد باخوم إلى إعادة البناء حتى يتمه على خير وجه، ويرفع البيت على قواعد إبراهيم الخليل، وحين يثار الخلاف بين القرشيين بشأن وضع الحجر الأسود، يشهد باخوم مع من شهد كيف جاء الحل على يد الصادق الأمين، ويمكث باخوم بعد هذا الحدث العظيم بعض الوقت في مكة، ثم يغادرها لا إلى نجران كما كان يخطط لكن إلى مصر، مكتفيا بما ناله من شرف المشاركة في إعادة بناء البيت الحرام، وقلبه معلق بالبيت ومكة، والصادق الأمين، الذي حقن الدماء.

البناؤون المصريون

مكة في شهر شعبان من عام 1039 من الهجرة، الموافق شهر إبريل عام 1630 ميلادية، يضربها السيل ويهرع سكانها إلى الجبال بعد أن تهدمت بيوتهم، أما الكعبة المشرفة، التي أفتى فقهاء الدولة العثمانية قبلها بسنوات بعدم جواز إعادة بنائها والاكتفاء بعمل نطاقين من النحاس حولها لحمايتها، فقد نالها من السيل الكثير، فتهدم جدارها الشامي وجزء من الجدارين الشرقي والغربي، وسقطت درجة السطح، وبلغ السيل منتصفها من الداخل، وقيل إن خلقا كثيرا ماتوا بسبب ما أحدثته السيول في الكعبة والأحياء المجاورة لها.

في هذه الأثناء كان الحجاز كغيره من الأمصار العربية تحت حكم الدولة العثمانية، فأمر السلطان العثماني آنذاك بإعادة البناء على أن يكون ذلك قبل موسم الحج، فإلى من توكل تلك المهمة المقدسة؟! إنهم المهندسون المصريون ولا أحد غيرهم، فينتقل المهندسون والبناؤون المصريون سريعا إلى مكة ليبدأوا عملهم في إعادة البناء، وحين يحاول أحد الفقهاء منعهم يطلب كبير المهندسين العون من أمير مكة الذي يدعوا الفقهاء في ساحة الحرم فيفتون بجواز البناء، بل وبوجوبيته حتى تستقبل الكعبة الحجيج قبل حلول موسم الحج، فيشرع البناؤون في عملهم ويجدون في أداء مهمتهم حتى ينتهوا منها في نحو شهر، ويتم ترميم المسجد بالكامل وتفرش أرضه بالحصى، وهذا هو البناء الحالي للكعبة، فما جاء بعده كان عمليات ترميم وتجديد على هذا البناء الذي شرف المصريون بإتمامه.

كسوة الكعبة

في متحف الحضارة بالفسطاط تقف شامخة في كبرياء معلقة على الأستار، إنها آخر كسوة للكعبة المشرفة صنعها المصريون عام 1961 كما جرت العادة لإرسالها إلى مكة لتستقر على جسم البيت المحرم، كان شرف كسوة الكعبة قد استقر في يد المصريين قبلها بعدة قرون، ومع امتداد نفوذ الدولة الفاطمية التي كانت القاهرة عاصمتها الأهم، توارث المصريون صناعة الكسوة وكان حكامها يعتبرون ذلك شرفا لا يمكن التنازل عنه، حتى وإن خاضوا حربا من أجله، وتأسست في مصر دار لكسوة الكعبة في حي الجمالية العريق، وعلى مدار تلك القرون وحتى عام 1961 وباستثناء سنوات قليلة، كانت كسوة الكعبة تخرج من القاهرة في موكب مهيب تحفه الأغاني والأهازيج الشعبية التي توارثتها الأجيال، وخلقت علاقة خاصة تربط المصريين بموسم الحج لتتصل بتاريخ قديم راسخ في نفوسهم، منذ كتبت أمهم هاجر وطفلها إسماعيل كلمة البداية في قصة البيت العتيق.

لقد أبدع العقل الجمعي المصري على مدار القرون طقوسا شعبية خالصة ترتبط بالحج، وصبغها بألوان زاهية ومنحها بهجة صافية يتم استدعاؤها في كل عام حين "يهل هلال شهر ذي الحجة"، فينشد البسطاء:

"يا حاجّة يا حاجّة

يا أم الشال قطيفة

رايحة فين يا حاجّة

رايحة أزور النبي الغالي

والكعبة الشريفة".