في أواخر الأربعينيات كان الاتحاد السوفيتي يعيش أجواء الانتصار في الحرب العالمية الثانية، ويواصل تمدده الفكري وحضوره السياسي في شتى أصقاع الأرض، فيما كان العالم يعيد ترتيب أوراقه في انتظار اكتمال صياغة نظام جديد تلعب فيه الولايات المتحدة دور القوة العظمى.

في هذه الأثناء وبالتحديد يوم 17 يونيو عام 1949، وفي مدينة "إيفانوفو" قرب موسكو ولدت طفلة بملامح روسية خالصة سماها أبواها "نينا"، وبعدها بأقل من عامين وفي مدينة " زاباروجيا" التي تقع ضمن حدود أوكرانيا السوفيتية ولد طفل بملامح حادة تشي بوجود عرق قريب من التركي في سلسلة أجداده وسماه أبواه "إيفان".

كبر الطفلان وارتبطا عاطفيا، واختارا بعد زواجهما أن يقيما معا في مقاطعة "دونيتسك" ضمن حدود أوكرانيا السوفيتية، التي كان أغلب سكانها من أصول روسية، وبعد نحو عامين أنجب الزوجان أبنتهما "داشا" لكن "نينا" كان لها طفل من زوج آخر، وكذلك أنجب "إيفان" طفلا من زوجة أخرى.

في منزل واحد في مقاطعة دونيتسك عاش الجميع، الأم والأب والأطفال الثلاثة.

الزلزال

عاشت الأسرة تحت ظلال دولة الاتحاد السوفيتي التي كانت توفر للجميع فرصا متساوية في كل شيء، بغض النظر عن الانتقادات الحادة التي طالت نظامها السياسي وأدت في النهاية إلى سقوط الدولة وانهيار النظام، وكغيرها من الأسر تعرضت أسرة "إيفان" و"نينا" لهزات عنيفة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وتبدلت أحوالها، وإن بقيت بفضل إصرار الأبوين وعزيمتهما في وضع أفضل أو لنقل أقل سوءا من كثير من العائلات الأوكرانية، أصبحت دونيتسك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ضمن أقاليم دولة أوكرانيا المستقلة، وإن بقيت أواصر الدم ومشاعر الانتماء مربوطة بالدولة الروسية.

وفي عام 2000 انتقلت الأسرة للإقامة في كييف ليكمل الأبناء، وفي مقدمتهم الفتاة المدللة "داشا " دراستهم الجامعية.

كان كل شيء يبدو طبيعيا ويسير بوتيرة لا تختلف كثيرا عن تلك التي اعتادتها الأسرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، لكن أوكرانيا قبل عام 2000 لم تعد هي ذاتها أوكرانيا بعد هذا العام.

ففي عام ألفين قتل الصحفي الأوكراني جورجي غونغادزة، واتهمت دوائر في المعارضة الأوكرانية الرئيس ليونيد كوتشما بضلوعه في خطف وقتل الصحفي، وعاشت البلاد أجواء ما عرف آنذاك "كوتشما جيت" التي قالت عنها روسيا إنها قضية مفتعلة بهدف إبعاد كييف عن موسكو.

وحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتن استغلال الموقف، فعقد قمة مع كوتشما في عام 2001 في مدينة دنيبروبتروفيسك بعيدا عما تعيشه العاصمة من تحركات مناهضة لكوتشما، وكانت هي القمة الأولى للرئيسين التي لا تناقش ما بين البلدين من خلافات بشأن تقاسم ممتلكات الاتحاد السوفيتي في أسطول البحر الأسود والديون الأوكرانية لروسيا، حيث أرادها بوتن قمة لدعم أوكرانيا اقتصاديا ودعم كوتشما سياسيا.

كانت الفتاة "داشا" تعيش تلك الأجواء في جامعة كييف التي كانت إحدى بؤر التحرك الشعبي ضد استمرار الحضور الروسي في القرار الأوكراني.

الثورة البرتقالية

وفي العام الذي تخرجت فيه "داشا" في الجامعة، 2004، خرجت المظاهرات في كييف ضد ما قيل إنه تزوير في الانتخابات، وظهر للوجود مصطلح "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا التي وإن هدأت بعد إعادة الانتخابات فإنها عادت أكثر قوة في 2014 لتقضي بشكل حاسم على أي تقارب بين روسيا وأوكرانيا، ويطرد الرئيس الذي كان يوصف برجل الكرملين، يانكوفيتش.

وبعد هروبه بأقل م عامين توفي والد "داشا" في كييف، فقررت الأم مغادرتها والعودة للحياة في دونيتسك، وبقيت داشا في كييف لتتزوج وتنجب ولدا وبنتا.

لم تضرب الاحتجاجات في 2014 أركان الدولة الأوكرانية فحسب، بل ضربت أيضا أركان الأسرة التي فرقتها السياسة بين مؤيد لموسكو وداعم لكييف، فالأم "نينا" مع ابنها "يفجيني" يعيشان في دونيتسك، والابنة "داشا" مع زوجها "رومان" يعيشان في كييف، أما الابن الثاني "إيفان" فيعيش مع زوجته في ماريوبول.

كان هذا هو وضع أسرة داشا عام 2016 وحتى عام 2019 وهو العام الذي توفيت فيه الأم في دونيتسك.

حرب الدونباس

تحولت أوكرانيا بعد عام 2014 إلى ساحة مفتوحة للحرب بشتى أنواعها بين روسيا من جانب والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر، وإن حرصت كل الأطراف على عدم الدخول في حرب مباشرة طيلة الأعوام الثمانية التي تلت ما عرف بحرب شبه جزيرة القرم، حتى كان يوم الرابع والعشرين من فبراير 2022 الذي شهد إطلاق روسيا ما سمته "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا لحماية الدونباس، وسمتها أوكرانيا والغرب والأمم المتحدة "عدوانا روسيا" على أوكرانيا.

تابعت داشا وأسرتها تفاصيل الحرب التي عمّقت ما بينهم من خلافات، فداشا تدعم أوكرانيا بينما يقف زوجها مؤيدا للموقف الروسي، تماما كما هو حال أخيها غير الشقيق المقيم في دونيتسك التي باتت تحت السيطرة الروسية، بينما يؤيد شقيقها المقيم في ماريوبول ويخطط للانتقال إلى كييف بعد سيطرة القوات الروسية عليها، الموقف الأوكراني.

هذه ليست حالة فريدة في أوكرانيا، فآلاف الأسر الأوكرانية ذات الأصول المختلطة "أوكرانية وروسية" تعيش ذات الصراع بمختلف تفاصيله، وتقف عند مفارق طرق البحث عن الهوية الغائمة.

إنها المعضلة التي يتجاهلها القادة المحركون لدفة الصراع، رغم علمهم بخطورتها وتداعياتها الكارثية على السلم الاجتماعي داخل أوكرانيا وروسيا على حد سواء، وإن كانت أكثر وضوحا وأعمق أثرا في أوكرانيا التي ستحتاج دون شك لسنوات طويلة تلملم فيها جراحها العميقة من جراء تلك الحرب.