لم يصدق " معين بسيسو" ما قرأه مكتوبا في دعوة وجدها مفتوحة أمامه دون أن يدري كيف وصلت إليه.

كانت الدعوة الممهورة بخاتم جامعة الدول العربية، لحضور ندوة تحت عنوان " الإعلام العربي في مواجهة الرواية الزائفة حول العدوان على غزة " فرك عينيه ثم أعاد القراءة مرة أخرى وهو ينفث دخان سيجارته :
نعم هذه الدعوة باسمي وتاريخ انعقاد الندوة هو تاريخ اليوم !!!
ما الذي ذكرهم بي بعد كل هذه السنوات ؟!، وعن أي عدوان على غزة يتحدثون ؟! ، لم يكرر السؤال، ولم يمهل نفسه الكثير من الوقت، فهم واقفا وأسرع بارتداء ملابسه التي ظهر بها في آخر أمسياته الشعرية ، وهرول موليا وجهه شطر مقر جامعة الدول العربية في قلب القاهرة
كانت تفاصيل شوارع القاهرة محفورة في ذاكرته منذ مر بها محمولا على الأعناق مشيعا إلى مثواه الأخير في مقابر "آل بسيسو" في القاهرة ، بعد أن رفضت قوات الاحتلال الإسرائيلي دفنه في غزة التي شهدت مولده .، اختلفت الصور، وتبدلت الأحوال، وتغيرت الوجوه، لكن رائحة القاهرة التي ألفها دلته على الطريق في سهولة ، فوجد نفسه دون عناء داخل مقر جامعة الدول العربية
الكتابة بالدم
حين دخل القاعة التي تشهد فعاليات الندوة ، وجدها تعج بالكاميرات التي اصطفت أمام نحو ثلاثين من الإعلاميين والصحفيين والسفراء العرب، فأخذ مكانه بين الحضور خلف اللافتة الصغيرة التي تحمل اسمه ، تفحص وجوه الحاضرين ، فلم يتعرف على أي منهم ، فأغمض عينيه ، وقرر أن يستمع لكلماتهم لعله يكتشف بأذنيه ما عجزت عيناه عن إدراكه ... مضى وقت فلم يتعرف على أحد ولم يفهم شيئا ، فاللغة غير اللغة ، والخطاب غير الخطاب ، وما كان يعتبره عجزا ، صار إعجازا ، وما كان يسميه تفريطا ، أصبح غاية المنى .
فتح معين بسيسو عينيه وصرخ في الجميع :
قبل أن تكتبوا لفلسطين بالدم
تعلموا كيف تكتبون بالحبر
إن الشعر الردئ هو شكل من أشكال الثورة المضادة ، وكذلك المقال ، والبرنامج الإذاعي ، والعرض المسرحي ، والفيلم السينمائي ، وكل أشكال التعبير عن الرأي والإعلان عن الموقف
القاتل واضح ، والقضية واضحة ، فلماذا الغموض
أطلق كلماته ساخنة ، صادقة ، طازجة، ثم غادر القاعة وهو يردد: الجنازة
الملصق
كلمات الرثاء التي لا تشير إلى تعديل على اسم المسافر
الأشياء ذاتها تتكرر
غادر معين بسيسو القاعة ، تاركا الجميع في حالة ذهول يسائل بعضهم بعضا عن هوية الرجل ، والجهة التي يمثلها ، وأهم من ذلك عن الشخص الذي دعاه لحضور الندوة
سفر سفر
في حي الشجاعية بمدينة غزة ، التي تتعرض حاليا للقصف الإسرائيلي المتواصل ، ولد معين بسيسو أحد الطلقات الشعرية الفلسطينية الخالدة ،في العاشر من أكتوبر عام 1927 وفي حجرة باردة بأحد فنادق لندن توفي إثر أزمة قلبية في الثالث والعشرين من يناير 1984 ، عاش بسيسو نحو سبعة وخمسين عاما أمضاها دفاعا عن القضية الفلسطينية ، كان كما كتب عنه شاعر فلسطين الأشهر محمود درويش : مواطنا بلا وطن ، ومنشدا بلا نشيد ، يمثل هذه الصلابة الخارقة ، صلابة الحلم في جسد يمزقه الرصاص من كل جهة ونظام ، كان يدرك أن المنفى يأخذه إلى منفى آخر ، وكان يدرك أنه يدور حول غزة ، مجموعته الشمسية الخاصة ، التي لا تمثل ملكية أحلامه الخاصة وذكرياته الخصوصية ، ولا ترتخي قبضة يده الممسكة بجمرة الحلم ، وكان يؤمن بأن للقصيدة طاقة الملموس الفاعل
رحل معين بسيسو قبل أن تعقد الندوة التي ناقشت كيفية الرد على الرواية الإسرائيلية الزائفة عما يدور في قطاع غزة بتسع وثلاثين سنة ، ولاشئ تغير ، رحل ومازال رجع الصدى يكرر رائعته
سَفَرٌ
سَفَرْ
موجٌ يُتَرْجِمُني إلى كلِّ اللّغاتِ
ويَنكسِرْ
موجاً على كلِّ اللّغاتِ
وانْكسِرْ
وَتَراً
وَتَرْ
سَفَرٌ
سَفَرْ
سُفنٌ كلابُ البحرِ أشرعةُ السُّفُنِ
وطنٌ يُفتِّشُ عَنْ وطنْ

لا شئ يعجبني
لم يلتفت أحد من المشاركين في الندوة لحضور معين بسيسو
ولم يسمع كلماته الصاخبة سواي ، فالكل كان مشغولا بالكلمات، مهموما بما يدور في فلسطين ، يعترفون – بحسرة - بسيادة الرواية الإسرائيلية ، وانحياز أمريكا والعالم الغربي لإسرائيل
كانوا يبحثون بصدق عن طريق للخروج من هذه المتاهة التي دخلها العرب والمؤمنون بعدالة القضية الفلسطينية ، رغما عنهم بسبب احتكار أمريكا والغرب عموما لوسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي
قدم البعض مقترحات ، ودعا البعض الآخر لمبادرات ، وانتقد الجميع الجميع ، لكن ورغم كل ذلك ، كان هناك من تحدث عن انتصارات ولو بسيطة أمام الانكسارات الكثيرة
كنت بينهم ، أردد ما أنشده محمود درويش :
أنا مثلهم
لا شئ يعجبني
لكننا لا نتملك رفاهية القول بأن " مفيش فايدة "
فدائما هناك فائدة ، وما فعلته جولة الحرب تلك ، أعادت الاعتبار لعدالة القضية الفلسطينية ، تلك التي من فرط عدالتها ، لا تحتاج للانحياز، هي فقط تحتاج إلى النزاهة والأمانة في نقل ما يدور ساعتها ستنهار السردية الإسرائيلية ، وهذا ما بدأ يلوح بالفعل
فعلى الرغم من كل ما يفعلونه من خلال منصاتهم ووسائل الإعلام التي تؤيدهم وتدعم موقفهم ، يخرج الآلاف في مظاهرات حاشدة تجوب الشوارع في مدن أمريكية وأوروبية عديدة تطالب بوقف العدوان ، ورفع الظلم التاريخي الواقع على أبناء الشعب الفلسطيني