في شهر مارس عام 1963 أعلنت مجلة " الكواكب " المصرية العريقة عثورها على كنز أدبي ثمين، هو عبارة عن قصة لم تنشر بعد للكاتب المسرحي السويسري فريديريك دورينمات تحت عنوان " الهواء الأسود "
ودعت المجلة عددا من كبار النقاد إلى قراءة النص والتعليق عليه وبالفعل لبى عدد من النقاد النداء، ودبج كل واحد منهم مقالا عن عبقرية دورينمات ودلالات النص الخفية، ومعانيه الظاهرة والباطنة، ورموزه التي قد تخفى على القارئ، لكن المفاجأة التي لم تخطر على بال من كتبوا تعليقاتهم على النص الأدبي.
البليغ " الهواء الأسود " أن النص لم يكن سوى حيلة ذكية من الكاتب الساخر أحمد رجب، الذي كتب بعد نشر ما كتبه النقاد قائلا: أنا الموقع أدناه أحمد رجب أقر وأعترف بأنني كاتب مسرحية "الهواء الأسود"، وأنني مؤلفها الأوحد .. وأن الخواجة دورينمات لا علاقة له إطلاقا بهذه المسرحية، وأنه ليس له أي إنتاج مسرحي بهذا الاسم !!!
أحمد رجب أراد بحيلته تلك كشف زيف وادعاء كثير من الكتاب الذين يروجون لما كان يعرف حينها بمسرح اللامعقول.
كانت خبطة صحفية من العيار الثقيل علق عليها طه حسين بقوله: إنها عقدة الخواجة فعلا، ووصفها توفيق الحكيم قائلا: هذا مقلب ظريف ولطيف، فيما قال عباس محمود العقاد: " وُفق الكاتب الصحفي أحمد رجب إلى حملة ناجحة على أسلوب النقد اليدوي منذ أيام فلفق رواية خنفشارية باسم الهواء الأسود ونسبها إلى مؤلف خنفشاري في إحدى الديار الأوروبية فاهتزت لها أعطاف النقاد المحترمين إعجابا وطربا وارتفعوا بها إلى قمم العبقرية"
بينما علق الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور على حيلة أحمد رجب قائلا: إن هذا أعظم عمل نقدي للنقاد قامت به الصحافة طوال السنوات الخمس الأخيرة "
ليست مجرد مقلب
دون شك كان مقلب أحمد رجب صفعة قوية على وجوه مدعي النقد الأدبي
الذين لم يكلفوا خاطرهم بالبحث الجاد في صحة الادعاء بنسبة النص للكاتب دورينمات ، واستسهلوا تصديق " العبث " الذي كتبه أحمد رجب وهو " مصاب بنوبة ضحك شديدة في مكتبه بدار الهلال " على حد وصفه لأجواء كتابة هذا النص العبثي .
هذه الواقعة تتكرر يوميا عشرات المرات على صفحات السوشيال ميديا في عصرنا الحالي، فنجد أخبارا ملفقة وقصصا زائفة وروايات لا علاقة لها بالواقع ، لكنها تجد من يصدقها ويروجها بل ويدافع عنها ، حتى إذا ما كُشفت الحقيقة ، وعُرف الزيف ، وظهر التلفيق ، يختفي المروجون، ويتوارى المدافعون ، تاركين من صدقهم من عوام المتابعين بحسن نية أو سوء طوية ، في ظلمات الجهل يمرحون
جرأة الجهل
والمؤسف حقا أن عددا من المحسوبين أو ممن يحلو للبعض أن يصفهم بالنخبة يمارسون ذات السلوك الذي مارسه نقاد مقلب دورينمات الشهير في مجلة الكواكب، ويكتبون بجرأة الجهل المركبة في قضايا وطنية هامة، ويناقشون ملفات سياسية معقدة على طريقة نموذج المثقف الذي تحدث عنه عمنا أحمد فؤاد نجم " بكام كلمة فاضية، وكام اصطلاح يفبرك حلول للمشاكل أوام " وفي هذا يستوي المؤيدون على بياض أو المعارضون على سواد، ففي كل ساعة يقذف أولئك وهؤلاء في وجوهنا بكل ما هو سخيف وساذج، ومثير للسخرية
ماكينات الكذب الإلكتروني
والمؤكد أن الأخبار الزائفة والقصص الملفقة ليست وليدة السنوات الأخيرة، بل يمكن القول بأن تاريخ الأخبار الزائفة يقترن بظهور الأخبار في حد ذاتها، والتاريخ الإنساني ملئ بالأخبار الزائفة التي استخدمتها الجماعات البشرية في صراعاتها المعقدة على مختلف المستويات، إذ كانت الشائعات إحدى وسائل الحروب قديما وحديثا، لكنها وبعد ظهور السوشيال ميديا اتخذت أبعادا أخطر وأعمق تأثيرا.
في دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 2018 ، ما يؤكد أن انتشار الأخبار الكاذبة والإشاعات على وسائل التواصل الاجتماعي أسرع من الأخبار الحقيقية، حيث أوضحت الدراسة أن هذا النوع من الأخبار الكاذبة أو المضلّلة لديه قدرة كبيرة في التأثير على الجمهور المتلقي في خلق مشاعر الخوف أو الاندهاش ، مما يضاعِف إقبال الناس على قراءتها ومشاركتها مع آخرين، ووجد هذا النوع من الأخبار ضالته في انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب سهولة الوصول إليها، وتوافر الإمكانيات التقنية وسهولة التعامل معها مثل أجهزة التابلت والهواتف الذكية ، وأصبحت هذه الوسائل في ظل الثورة التكنولوجية والرقمية ، أكثر انتشارا ليس داخل المجتمعات المحلية وحسب ولكن باتت عابرة للحدود وذلك لطبيعة هذه المنصات المساعدة على النشر دون تكلفة ودون رقابة، كما تساعد طبيعتها المثيرة للجدل في الانتشار بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، خلال بحثهم عن السبق في نشر الأخبار، خصوصا إذا تعلق الموضوع بقضايا تستأثر باهتمام الرأي العام وفي هذا خطر لو تعلمون عظيم.