قبل نحو مئة عام كان الأديب الكبير عبد العزيز البشري يكتب بانتظام في مجلة السياسة الأسبوعية مقالا كاريكاتوريا ساخرا تحت عنوان "المرآة"، قبل أن يضم المقالات لاحقا وبنصيحة من أصدقائه في كتاب حمل ذات العنوان.

وقد تناولت مقالات "المرآة " العديد من الشخصيات البارزة في ذاك العصر من بينهم سعد زغلول وعدلي يكن، وهدي شعراوي، وأحمد لطفي السيد وغيرهم ، ومن ألطف ما كتب عن سلسلة المقالات تلك ما نظمه شاعر النيل حافظ إبراهيم – وكان واحدا ممن تناولتهم المقالات - في وصفها قائلا:

تريك المرايا الخلق فيهن مائلا

وهذي تريك الخلق والنفس والطبعا

كان من بين الشخصيات التي تحدث عنهم البشري في إحدى مقالات "المرآة" صديقه الدكتور محجوب ثابت الذي قال عنه البشري : "ولا أحسب رجلا في مصر ولا في انجلترا مشغولا بالسودان شغل الدكتور محجوب ثابت ، فحديث السودان يجري منه مجرى النفس ، ولو هيئ له أو هيئ لك على الأصح، أن تستمع له لحدثك في شأن السودان ثلاثين عاما متصلة لا ينقطع ولا يتحبًس ولا يتلجلج ولا يتلعثم ، ولا يمل ولا يكل ولا يُبطئ ولا يزِل".

والدكتور محجوب ثابت هو واحد من الشخصيات المثيرة للجدل في تاريخ مصر الحديث ، فقد كان واحدا من خطباء ثورة 1919 ومن أوائل من دعوا لتنظيم حركة العمال ، وكان إلى جانب ذلك نظيف اليد عف اللسان ، حلو العشرة كما وصفه البشري نفسه في ذات المقالة ، لكنه إلى جانب ذلك كان سياسيا مشوشا ، ومثقفا مرتبكا.

وقد اشتهر في عصره بأمرين :كثرة الحديث عن السودان، وكثرة استخدامه لحرف القاف، حتى أن شاعر النيل حافظ إبراهيم سجل هذا عليه في قصيدة ساخرة طويلة يقول في إحدى مقاطعها:

يرغي ويزبد بالقافات تحسبها قصف المدافع في أفق البساتين

من كل قاف كأن الله صورها من مارج النار تصوير الشياطين

قد خصه الله بالقافات يعلكها واختص سبحانه بالكاف والنون

السودان والسنوات العجاف

قبل نحو سبعة وعشرين عاما كنت قد عقدت العزم على الاشتغال بالصحافة بعد تردد لم يدم طويلا ، وكانت صحيفة الدستور التجربة الصحفية الشابة والواعدة بكل المعاني في هذه الأثناء هي وجهتي.

وبعد شهور قليلة وجدت نفسي رفقة كتيبة من الزملاء النابهين – كنت أحدث المنضمين لهم - وبتشجيع ودعم لا محدود من مدير التحرير جمال فهمي ورئيس التحرير إبراهيم عيسى، نكتب ونفكر ونبدع كل في مجال، المهم عرضت على رئيس التحرير أن أعد تحقيقا صحفيا عن السنوات السبع العجاف في السودان تحت حكم تحالف البشير والإخوان ،" 30 يونيو 1989 " وأنا وإن كنت أحب السودان وأهله إلا أنني أعترف بأن معرفتي بالسودان حتى كتابة هذا التحقيق الصحفي كانت أقل بكثير مما يجب ، فشعرت بالتقصير الذي دفعني لتكثيف القراءة عن السودان ، كما أفادني كثيرا صداقات عميقة بالعديد من المثقفين السودانيين لاحقا في فهم خريطة السودان السياسية والاجتماعية فضلا عن الاقتراب أكثر من الشخصية السودانية المحببة إلى قلبي.

ما الذي يحدث في السودان؟

في الحادي والعشرين من أكتوبر عام 2021 كنت في العاصمة الليبية طرابلس لتغطية مؤتمر دعم استقرار ليبيا ، وكان من بين من التقيتهم وأجريت حوارات تليفزيونية معهم ،وزيرة الخارجية السودانية الدكتورة مريم الصادق المهدي، في هذا التوقيت كانت الأحداث تتوالى في السودان وكان الجميع يتوقع أن تحمل الأيام المقبلة ما هو أسوأ ، ساعتها سألت مريم الصادق: ما الذي يحدث في السودان ؟ وهل نحن مقبلون على جولة أخرى من الصراع بين مكونات نظام الحكم الانتقالي بجناحيه المدني والعسكري؟.

فردت بأن هذا الأمر لن يقبله السودانيون ، ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء ، وسنكمل بناء نظامنا الديمقراطي.

بعد هذا اللقاء السريع مع مريم الصادق في العاصمة الليبية طرابلس بنحو عام التقيتها على ضفاف نيل القاهرة في جلسة غير رسمية شبه عائلية ضمت عددا من الأصدقاء وبدعوة من الصديق أحمد المسلماني ، وكان السؤال المحوري في تلك الجلسة هو ما الذي يحدث في السودان؟.

وكيف يمكن جسر الهوة الآخذة في الاتساع بين مصر والسودان ؟ واستمع الحضور لتحليل الدكتورة مريم، وكان مما قيل إن هناك من الإعلاميين المصريين من يتحدث عن السودان وهو لا يعرف السودان ، وهناك قطاعات من السودانيين خاصة من الأجيال الشابة لا يدركون عمق العلاقات بين الشعبين المصري والسوداني ، وبين هذا الفريق وذاك تتعرض العلاقات التاريخية الراسخة بين الشعبين لمخاطر جمة.

نموذج محجوب ثابت

والحق أن ما يحدث في السودان بات أمرا في غاية التعقيد ، وعصيا على التفكيك في ظل تشابك العلاقات وتضارب المصالح وصراع الأجنحة والقوى سودانيا وإقليميا ودوليا ، ومن ثم فإن الخروج من الأزمة الحالية يحتاج لما هو أكثر من جولات التفاوض من أجل وقف مؤقت لإطلاق النار لا يصمد طويلا ، وما هو أعمق من تحليل ساذج يفسر الأزمة بأنها صراع بين قوى مدنية وأخرى عسكرية ، كما أنه بالتأكيد أخطر من نزاع مسلح بين جناحين بغض النظر عن قوة كل جناح وسلامة موقفه الوطني.

وهنا أعود لنموذج الدكتور محجوب ثابت وما كتبه عنه عبد العزيز البشري إذ يقول : "ولو أن رجلا مسح السودان شبرا شبرا ، وذرعه فترا فترا ما كان أعلم به من الدكتور ثابت ، على أنه لم يره و لم يزره طول حياته مرة واحدة وقال له بعضهم يوما : لقد جعلت السودان شغلك يا دكتور حتى أصبحت رمزه في هذه البلاد ، فهلا زرته وتفقدت أهله ؟ ففتل عثنونه وقال : لا حاجة بنا إلى هذا فقد عرفناه وخبرناه ، ولا أدري أكان هذا من الدكتور ورعا أم كسلا".

وهنا أحد أوجه الأزمة الحالية فهناك الكثير ممن يتحدث عن السودان من بين الكتاب والإعلاميين عربا كانوا أم عجما ، والكثير ممن يصر على دس أنفه في شئون السودان من القوى الإقليمية والدولية ينتمون لنموذج الدكتور محجوب ثابت الذي لم يزر السودان يوما ولكنه يصر على الحديث عنه والتفكير نيابة عن أبنائه.

في مؤتمر دول جوار السودان الذي دعت له مصر واستضافت أول اجتماعاته ، كان الحديث يدور عن "نموذج الدكتور محجوب ثابت" وكان من بين أهم مخرجات الاجتماع الدعوة لعدم التدخل في شئون السودان والعمل على خلق آلية عمل دائمة من دول الجوار التي تمثل النموذج المضاد لنموذج محجوب ثابت لدعم السودان وأهله والعمل من أجل مساعدته في الخروج من أزمته

يا سادة اتركو السودان لأهله وكفوا عنه ألسنتكم وأيديكم ومصالحكم وتدخلاتكم في شؤونه، وإن كان لابد لكم من دور فليكن دعما إنسانيا لا يفرق بين أبناء الشعب السوداني.