منذ أزمة وباء كورونا، تتسارع الأحداث التي تظهر بوضوح أن التغيرات في العالم قوية فعلا وأوسع نطاقا وأثرا مما يتصور المفكرون والمنظرون ومن يسمون "خبراء". وأن تلك التغيرات ليست مؤقتة، إنما تقترب من أن تكون جذرية فعلا وستصبغ المرحلة القادمة من حياة البشرية على كوكب الأرض.

ويبدو ذلك واضحا على كافة أصعدة نشاط البشر، كعالم وأقاليم ودول وجماعات وأفراد.

لعل البعض يتذكر عبارة وزير دفاع الإدارة الأميركية لجورج بوش الإبن، دونالد رمسفيلد، التي أزعجت الأوروبيين حين وصف أوروبا بأنها "القارة العجوز" في مطلع القرن الحالي. الواقع أن وصف رمشفيلد لم يكن مبالغة ولا تعبير انشائي، إنما يعكس حقيقة يحاول السياسيون "اخفاءها تحت السجادة" كما يقال.

فأوروبا التي كانت مركز العالم وتقاس بقية أقاليمه بموقعها الجغرافي والسياسي منها بدأت تفقد مكانتها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية أواسط القرن الماضي. وأصبحت الأطراف، التي ظلت تسمياتها كما اشتقها المركز مثل "الشرق الأوسط" و"الشرق الأدنى" وغيرها، تدور في فلك الوريث التقليدي للمركز وهو الولايات المتحدة.

ربما نافس الاتحاد السوفيتي السابق المركز الجديد فيما سمي بصراع الحرب الباردة لكنه انتهى بانهيار القطب الثاني الشرقي للعالم وبقيت واشنطن قطبا أوحد تمثل المركز الذي يدور بقية ما يسمى "التحالف الغربي" وفي قلبه أوروبا ضمن مجال نفوذه.

ورث المركز الجديد المركز السابق "على حياة عينه" – كما يقال – لكن على مدى تلك العقود التي احنضر فيها المركز التقليدي لم تكن الولايات المتحدة مركزا مطبقا كما كانت أوروبا في السابق بالحغرافيا والتاريخ.

وذلك ما أدى إلى بروز مراكز إقليمية متعددة في أنحاء العالم المختلفة تتباين من حيث القدرة ومسار التطور والنمو. لكن أتصور أن النهاية الحقيقية للمركز (أوروبا) كانت في أزمة وباء كورونا الأخيرة مطلع العقد الثالث من هذا القرن. فقد أوضحت الأزمة بجلاء أن القارة العجوز تلفظ أنفاس قوتها الأخيرة، ولم يكن التصارع بين دول اتحادها الأوروبي – إلى حد السرقة والنهب – على معدات الوقاية الصحية القادمة من الصين سوى مشهدا جليا على نهاية المركز التقليدي.

توالت بعد ذلك الأحداث التي أكدت موت القارة العجوز تقريبا، ولارتباط المركز الجديد بها لم تسلم واشنطن أيضا من تبعات ذلك إلى حد ما. تدهور اقتصادي عام في أكبر اقتصاد في العالم باميركا وتابعتها بريطانيا، وشبه جمود في دول اليورو. ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق ادى الى رفع اسعار الفائدة بما شدد ظروف الائتمان ويضغط اكثر على فرص النمو. وتحول انظار العالم كله إلى الصين، مركز سلاسل التوريد العالمية الكبرى، التي فرضت اغلاقا مشددا حتى نهاية العام الماضي. ومع فتح الاقتصاد الصيني، تنفس العالم الصعداء – مع ان اقتصادها هو ثاني اقتصاد في العالم بعد أميركا. لكن الصين بدت اقتصاديا وكأنها المركز الجديد للعالم، حتى بالنسبة إلى أوروبا.

في العام الماضي، شنت روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا ورغم التداعي الغربي لمساعدة كييف إلا أن الاختلافات بين دول أوروبا وأميركا لم تكن خفية تماما – باستثناء بريطانيا التي تزايد بلغو الحديث وخطابة التصريحات بغض النظر عن الفعل الحقيقي. فبريطانيا في مأزق بعد خروجها من أوروبا (بريكست) متصورة أن ذلك سيجعلها أقرب للمركز الجديد وبعيدة عن المركز المنتهي لكن وضعها اصبح كمن خسر "عنب الشام وبلح اليمن" – كما يقول المثل الشائع.

وتوالت التطورات التي تؤكد ليس فقط نهاية المركز التقليدي في أوروبا، بل وأيضا تراجع دور ومكانة الوريث الأميركي في العالم. ولعل منطقتنا مثال واضح على هذا العرض الأخير، رغم أن فك الارتباط الأميركي بها بدأ منذ سنوات حتى من قبل إدارة الرئيس الديموقراطي السابق باراك أوباما. لكن السنوات الأخيرة، ومن قبل أزمة وباء كورونا تشهد أحداثا متتالية ومتسارعة تبرهن على اضمحلال ذلك النفوذ الأميركي.

ولعل بروز قيادات جديدة في أغلب دول المنطقة، خاصة دول الخليج، تضع مصالح بلدانها الوطنية كأولوية على أي علاقات أو تحالفات ساهم في تسريع فك الارتباط. ليس بالضرورة التخلي عن العلاقات مع القطب الأميركي المهم، ولا حتى مع المركز الأوروبي المنتهي، ولكن "تنويع" العلاقات على حسب الفائدة المباشرة والاستراتيجية. وكان لكل تلك التطورات تأثيرا مباشر على ثلاث دول في الاقليم هي تركيا واسرائيل وإيران. ليس فقط نهاية المركز التقليدي في أوروبا وإنما أيضا ما تبعه بالضرورة من تراجع دور وريثه الجديد.

كل هذه التطورات تسهم عمليا في تمييع مسألة "المركز" وتعطي الأطراف التقليدية ميزة استثنائية لتعظيم مكاسبها وتعزيز دورها في أي ترتيب لقادم لنظام عالمي جديد ربما يكون مختلفا تماما عما شهدته البشرية في القرون السابقة. ليس بالضرورة أن يصبح المركز في منطقتنا، رغم أهميتها الجغرافية-التاريخية، لكن أن تصبح أغلب دول المنطقة مهمة في أي ترتيب بما يضمن مصالحها في التنمية والتطور.

وبغض النظر عن تقسيمات على الأسس القديمة، من شرق وغرب أو شمال وجنوب، فإن منطقتنا ستظل "وسطا" في أي ترتيب. وتلك ميزة هامة، ليس بالاعتبارات الجغرافية فحسب إنما الوسطية في أغلب الأمور من السياسة إلى الثقافة والفن.