في زمن تراجع الأخبار الجادة التي تهم الناس، إلا ما هو مغرض و"تلفيقي" منها، تذخر وسائل الاعلام ومواقع التواصل بتفاصيل اخبار نساء تحولن إلى مليارديرات بعد طلاقهن من أزواجهن الأثرياء - من طليقة جيف بيزو صاحب أمازون إلى طليقة بيل جيتس صاحب مايكروسوفت وغيرهما. والتركيز في تلك القصص على استفادة الزوجة من الطلاق.

إلا أن هناك عملية انفصال منذ أربع سنوات كانت أغلى طلاق على الاطلاق، وإن لم يكن بين زوج وزوجة. ذلك هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) بعد نصف قرن من العضوية. كان البريطانيون صوتوا في 2016 لصالح بريكست في استفتاء جاءت نتيجته شبه مناصفة ليتم الطلاق رسميا بنهاية أول شهر في 2020.

لم يكن طلاق بريطانيا من أوروبا مكسبا لأي طرف، لذا هو يختلف عن طلاق الأثرياء الذي نتابع اخباره في وسائل الإعلام ومواقع التواصل. بل كان في الواقع خسارة للطرفين، وإن كانت الطليقة أكبر خسارة، ليس فقط من بضع عشرات المليارات التي كان عليها أن تدفعها للاتحاد تعويضا (أشبه بنفقة طلاق لمرة واحدة) وإنما لأنها تعاني منذ الانفصال أكثر من معاناة أوروبا من خروجها.

في أحدث استطلاع للرأي قبل أيام، أعرب أغلبية البريطانيين عن خيبة أملهم من بريكست ووصفوه بالفشل. حتى هؤلاء الذين صوتوا للخروج من أوروبا قبل ثماني سنوات قالوا إن أوضاعهم المعيشية اصبحت أسوأ في السنوات الأربع الأخيرة منذ الطلاق الرسمي بين بريطانيا وأوروبا. وقال ثلاثة أرباع المستطلعة آراؤهم إن بريكست أضر بالاقتصاد البريطاني وبمستوى معيشة البريطانيين وجعل النظرة للمستقبل أكثر تشاؤما.

بالطبع يعد ندم البريطانيين غير ذي معنى، لأنه جاء بعد فوات الأوان إذ يصعب الآن العودة عن بريكست تماما. في حملة استفتاء بريكست روج المتحمسون من أمثال رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون وفريقه من حزب المحافظين أن بريكست سيمكن بريطانيا من الازدهار بعيدا عن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي وسيوقف موجات الهجرة إلى بريطانيا ويجعل البلاد مسيطرة أكثر على حدودها وقادرة على اتخاذ قرارتها بحرية لتنطلق إلى آفاق عالمية أوسع وبالتالي يتمتع البريطانيون برخاء لم يشهدوه وبلادهم ضمن الاتحاد. وعلى سبيل المثال، كذبوا بالقول إن بريكست سيوفر نصف مليون دولار أسبوعيا للخدمة الصحية الوطنية البريطانية.

بعد أربع سنوات، وبالأرقام والبيانات الرسمية، خسر الاقتصاد البريطاني نحو نصف تريليون دولار بسبب بريكست والانفصال عن الشريك التجاري الأكبر له. وانكمش حجم اقتصاد بريطانيا بنحو الخمس وأصبح الأسوأ أداءا بين اقرانه وزادت كلفة المعيشة على البريطايين أكثر من اي بلد مماثل. قد يحاجج بعض مؤيدي بريكست بأن الطلاق الرسمي تزامن مع ازمة وباء كورونا ثم ارتفاع معدلات التضخم العالمية. لكن كل تلك العوامل كانت مؤثرة في كل دول العالم وليس بريطانيا فقط.

من نتائج الاستطلاعات الرأي في السبوع الأخير، مع الذكرى السنوية الرابعة لبريكست، نجد أغلبية البريطانيين يرون أن أوضاعهم المعيشية أصبحت أكثر سوءا مما كانت عليه وبريطانيا عضو في الاتحاد الأوروبي. وأن بريكست أضر بتمويل الخدمات الصحية ولم يجعل البلاد أكثر تحكما في حدودها، بل أضر بذلك لتزيد الهجرة السنوية إليها على رغم تراجع أعداد المواطنين الأوروبيين في بريطانيا.  فضل عن أن الطلاق من أوروبا أضر كثيرا بالوضع الدولي لبريطانيا وبآفاق نموها الاقتصادي على السواء.

أما الانطلاقة الحرة التي وعد بها أنصار الطلاق فلم يتحقق منها الكثير، بل على العكس اصاب بريطانيا العجز أكثر مما لوكانت مع أوروبا. المثال الأبرز أن تصور اقامة اتفاقيات تجارة حرة مع القوى الاقتصادية العالمية بمجرد الخروج من أوروبا والغاء قيود الاتحاد البيروقراطية سيعوض أي خسائر محتملة من التجارة مع أكبر شريك لبريطانيا عبر القنال الانجليزي بل ويزيد المكاسب أضعافا ثبت انه أقرب إلى الوهم.

فحتى الآن، لم تبرم بريطانيا اتفاقية تجارة حرة تحقق لها مكاسب كبيرة. والأهم، أن الاتفاق مع الولايات المتحدة، الذي كان يروج له أصحاب بريكست أن يتم على الفور قبل أربع سنوات، لم يحدث. بل فشلت مؤخرا مفاوضات اتفاقية تجارة حرة مع كندا. وما زالت اتفاقية مماثلة مع الهند وكوريا الجنوبية بانتظار الانتهاء من مفاوضاتها. وفي النهاية، وحسب الأرقام الرسمية لم تعوض بريطانيا بعد ربع ما خسرته تجاريا بالخروج من الاتحاد الأوروبي.

وفي الوقت الذي زاد فيه أعداد المهاجرين إلى بريطانيا ليبلغ أعلى مستوى له العام قبل الماضي بدخول ثلاثة أرباع مليون شخص، لم يعد البريطانيون يتمتعون بحرية الحركة في أوروبا كما كان قبل الطلاق. صحيح أنهم ليسوا بعد في وضع من يحتاج تأشيرة دخل لدول الاتحاد الأوروبي، لكنهم في المطارات والموانيء يقفون في الطوابير بانتظار ختم جوازات سفرهم – فلم يعودوا من العائلة الأوروبية بعد. هذا فضلا عن قيود جديدة على كثير من ابلريطانيين المتقاعدين الذين يتركون بلادهم الباردة الغائمة إلى دول أوروبية دافئة ومشمسة.

الأمثلة لا تعد ولا تحصى على الأضرار التي بدأت تشعر بها الدولة المطلقة، التي لم تحصل على اي فووئاد من الطلاق بل على العكس تتحمل نفقات وخسائر بالمليارات. ما يجعل بريكست بالفعل أغلى طلاق بالسلب وليس ايجابيا.