سيكون العام المقبل، 2024، العام الذي يشهد أكبر عدد من الانتخابات في عام واحد في تاريخ العالم، إذ ستشهد عشرات الدول في كل قارات العالم الكبرى تقريبا انتخابات عامة أو محلية يشارك فيها كل من لهم حق التصويت، ويعني ذلك أن أكثر من نصف سكان العالم، أي أكثر من 4 مليار نسمة، سيشاركون في انتخابات العام المقبل، ولم يحدث ذلك في عام واحد من قبل.

هناك 76 بلدا من أوروبا وإفريقيا وآسيا والأميركتين ستشهد انتخابات العام المقبل، سيؤدي بعض تلك الانتخابات إلى تغيير واضح في الحكومات وربما في السياسات الداخلية والخارجية لتلك الدول، لكن أغلبها قد لا يؤدي إلى تغيير ملموس. ذلك فيما يتعلق بالدول التي ستشهد انتخابات رئاسية وبرلمانية قد تغير الأحزاب الحاكمة أو تشكيلة البرلمانات بما يؤثر في تغيير السياسات ولو قليلا. وهناك دول ستشهد انتخابات محلية، ثل تركيا والبرازيل، قد لا تغير شكل الحكم، لكنها ستعني إما زيادة تفويض السلطة الحاكمة أو زيادة المعارضة التشريعية لها، بما يعرقل بعض سياساتها، خاصة الداخلية.

أما الانتخابات الأكبر العام المقبل، فتشارك فيها دول الاتحاد الأوروبي (27 دولة) لانتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي. ويرجح على نطاق واسع أن تؤدي تلك الانتخابات إلى تغيير تركيبة البرلمان، بما يعني تعديلا واضحا في السياسات الأوروبية تجاه قضايا مثل الاقتصاد والرفاه الاجتماعي، لكن الأهم تجاه القضية الأكثر إلحاحا في الآونة الأخيرة: الهجرة والمهاجرين.

وحسب كافة المؤشرات في أغلب دول أوروبا حاليا، فإن أحزاب اليمين واليمين المتطرف المعادية للمهاجرين أو الراغبة في الحد من الهجرة ستحصل على نصيب أكبر في البرلمان الأوروبي المقبل على حساب أحزاب الوسط واليسار.

أما الانتخابات العامة الوحيدة في أوروبا العام المقبل، فالأرجح ألا تجرى، لأنها في أوكرانيا التي تخضع الآن لقوانين الطوارئ بسبب الحرب، لكن إذا اختار الرئيس الأوكراني إجراء الانتخابات الرئاسية للحصول على تفويض شعبي جديد فإنها لن تكون انتخابات سليمة تماما لغياب التصويت في أماكن الحرب، فضلا عن نزوح الملايين من مواطنهم داخليا أو للخارج.

طبعا سيراقب العالم الانتخابات التي تجرى في بعض أكبر الدول قوة ومن ناحية عدد السكان، مثل الولايات المتحدة وروسيا والهند وإندونيسيا وبنغلادش وباكستان والمكسيك مثلا، والأرجح أن تلك الانتخابات لن تشهد تغييرا مهما في السياسات والمواقف، بغض النظر عن حدوث تغير في الرئاسة والبرلمان من عدمه، وهناك أيضا انتخابات بريطانية قد تؤدي إلى تغيير تركيبة البرلمان والحكومة، لكن في ضوء مواقف المعارضة الحالية من أغلب القضايا الداخلية لا يتوقع تغيير كبير حتى لو أزاحت الحزب الحاكم في الانتخابات العامة المتوقعة منتصف 2024.

تأتي قارة إفريقيا بعد أوروبا في عدد الدول التي ستشهد انتخابات العام القادم وحجمها من حيث عدد السكان. فهناك عدد من الدول كثيفة السكان التي ستجري انتخابات في 2024، مثل جنوب إفريقيا والجزائر وغانا وموزمبيق، لكن أغلب تلك الانتخابات قد لا تسفر عن تغيير ملموس في ضوء أوضاعها الداخلية الحالية.

إذا أخذنا في الاعتبار مؤشر وحدة استخبارات الإيكونوميست لمدى ديمقراطية الدول، فإن أغلب تلك الانتخابات (نحو ثلثيها) ستجرى في بلدان إما ديمقراطية تماما أو ديمقراطية إلى حد ما حسب ذلك المؤشر، والبقية ستجرى في بلدان تأتي في مرتبة متدنية من حيث ديمقراطيتها، لكن في الأغلب الأعم لا يبدو مؤشر الديمقراطية عاملا مهما في نتائج تلك الانتخابات وما يمكن أن تسفر عنه من تغيير، ففي الهند مثلا يتوقع فوز حزب رئيس الوزراء المغالي في القومية واستمراره في الحكم، كذلك في جنوب إفريقيا، إذ يتوقع أن يفوز حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ويواصل البقاء في السلطة لفترة أخرى، كما أنه لا يتوقع أن يواجه الرئيس الروسي أي تحد مهم في انتخابات العام المقبل، كذلك الحالي في إندونيسيا، إذ يتوقع أن يفوز حزب يسار الوسط بالانتخابات البرلمانية والرئاسية.

إذًا، بغض النظر عن التصنيف الديمقراطي للدول التي ستشهد انتخابات في 2024، أي سواء كانت تلك انتخابات "حرة ونزيهة" أو تشوبها عيوب انتخابية، فالواضح أنها لن تحدث تغييرا كبيرا، ومن حجم وأهمية الدول التي ستشهد تلك الانتخابات في كافة قارات العالم تقريبا يمكن القول ببساطة إن العالم مستمر في توجهه الحالي، حتى وإن انحرف سياسيا أكثر نحو اليمين.

وبالتالي سيستمر التوجه الحالي في السياسات الداخلية للدول وتبعاتها على السياسة الدولية، أي أننا سنشهد مزيدا من التوجهات القومية، وربما الأكثر تطرفا في بعض أركان العالم، وسياسات انعزالية وحمائية معاكسة لتيار العولمة، كما أن التوترات الجيوسياسة والحروب الحالية مرشحة للاستمرار، بل وربما اندلاع أخرى في أماكن جديدة.

سيكون عام 2024 عام أكبر انتخابات في العالم التي ستنتج أقل تغيير ممكن في السياسات والتوجهات اللهم إلا تأكيد اتجاه العالم نحو مزيد من التشرذم بديلا للتعاون وللصراعات (سياسة واقتصادية وربما حتى عسكرية)، أكثر منه نحو السلام والتنمية، ويتمنى المرء أن يكون تقديره مخطئا في هذا.