في مواسم الانتخابات تكثر أموال التبرعات والهبات، بما يسمى "المال السياسي". ولا تقتصر منافع تلك المواسم على المرشحين وأصحاب المصالح الداعمين، وإنما هناك كثيرون ينشطون في تلك الأوقات التي تعد "مصدر رزق" لهم، من خبراء العلاقات العامة ومحامين لقانون جماعات الضغط وخبراء مالية وصناديق.. الخ.

أنها مواسم بيع وشراء وسمسرة هائلة.

حين كنت أعمل في مؤسسة إعلامية كبرى في أوروبا قبل عقود كانت المؤسسة تسعى لفترة طويلة من أجل إجراء مقابلة مع بابا الفاتيكان، وعندما جاءت الموافقة كان مطلوبا إرسال صحفي إلى المقر الباباوي. وقع الاختيار على زميل من أصول غير أوروبية لم يكن سافر إلى إيطاليا من قبل ولا يعرف اللغة الإيطالية. وحذره بعض الزملاء من ألاعيب التعامل مع الإيطاليين خاصة سائقي التاكسي وأمثالهم. نزل في المطار واستقل تاكسي إلى روما، وتصور السائق أن زميلنا سائح ثري من آسيا أو أفريقيا فأخذ يعرض عليه إغراءات.

الإيطاليون هم أقرب شعوب جنوب أوروبا لنا، ويمكن لمن يريد أن يبيعك شيء منهم أن يكون لزجا جدا. لم يفهم زميلنا في البداية، فأدرك السائق وبدأ يستخدم يديه لرسم ما يقوله وزميلنا يجيب بكلمة واحدة: "لا شكرا". وحين يستفهم السائق بإشارة من يده عما يريده بالضبط يكرر زميلنا: "روما، الفاتيكان، البابا". استشاط السائق غضبا وصرخ فيه بالإيطالية ما لم يفهمه إلا لاحقا: "البابا مستحيل، ممكن أسقف أو حتى كاردينال .. لكن البابا مستحيل".

الآن، أصبح الكل قابلا للبيع تقريبا - أو على الأقل هناك كثيرون يرون ذلك. ومن الدول التي تنظم عمليات شراء النفوذ واستخدام المال السياسي بالقانون الولايات المتحدة. يسجل كل من يريد أن يدعم مرشحا لمجلس تشريعي بما في ذلك الكونغرس، أو يتبرع لحملات السياسيين بمن فيهم الرئيس الطامح لدخول البيت الأبيض، اسمه في سجل حكومي لممارسي النفوذ بالمال (لوبي).

يضع القانون سقفا لتبرعات الأفراد والشركات والأعمال للسياسيين كي لا يقع نائب أو عضو مجلس شيوخ تحت تأثير صاحب مصلحة واحد أو شركة أو جهة معينة. وتلتزم شركات اللوبي (الضغط السياسي بالمال) بتلك القواعد والحدود. لكن "الحلم الأميركي" أكبر من القيود والقواعد، لذا ابتكرت ما تسمى لجنة العمل السياسي (باك). وهي عبارة عن صندوق لجمع التبرعات لصالح مرشح أو سياسي وتستفيد من ثغرات القواعد في توفير أموال أكثر وفرص أكبر للضغط من أصحاب المصالح.

ثم في الانتخابات الكبرى، مثل ما تتجه إليه أميركا الآن من انتخابات رئاسية وتشريعية في نوفمبر القادم، هناك ما تسمى "سوبر باك"، وهي صناديق يمكنها جمع تبرعات وهبات بلا سقف أو حدود لتوزعها على أكثر من سياسي أو مرشح. وهي أفضل وسيلة لضح الملايين لدعم مرشحين معينين مقابل خدمات تشريعية وسياسية يقدمونها للشركات والأعمال، وربما جهات ودول، بعد فوزهم.
كل ذلك يتم بشكل قانوني تماما، ولا سرية فيه ولا مداراة بل إن تلك الصناديق تعلن رسميا عما تتلقاه من أموال ومصدرها حتى لو كان دولة أجنبية وأيضا عن منافذ انفاق تلك الأموال والمرشحين أو السياسيين الذين تذهب إليهم. وكله بالقانون.

طبعا القصد من قوانين وقواعد تنظيم المال السياسي، أي التبرعات لحملات المرشحين وأموال اللوبي للسياسيين، هو الحد من الفساد وتضارب المصالح واستغلال المشرعين أو التنفيذيين سلطتهم لخدمة من يدعمونهم بدعم تشريعات لصالحهم أو إجراءات رسمية تفيدهم دون منافسيهم. لكن بالطبع هناك من يرى أن "القوانين توضع للالتفاف عليها".

وفي الأغلب الأعم يجد من يريد التأثير في التشريعات والسياسة وسيلة للالتفاف على القانون، كأن توزع جهة ما تبرعاتها عبر منافذ تابعة لها أو موالية حتى لا تبدو كأنها أتت من مصدر واحد. ويمكن أيضا للسوبر باك والصناديق الأخر أن تجمع المساهمات لمرشح معين دون أن تبدو كأنها تركيز للمال السياسي بهدف التأثير عليه. أو لنقل بصراحة: شراؤه. ولا تحمل الكلمة أي دلالة سلبية كما نفهمها بلغتنا في منطقتنا، طالما أن كل ذلك يتم في اطار قانوني. وحتى بعض التحايل على القانون هناك من يتعامل معه من محامين ومستشارين قانونيين يحصلون على أجور عالية أصلا وتلك مهمتهم.

لا يقتصر الأمر طبعا على الولايات المتحدة، فيمكن لأي جهة - ثرية ذا مصلحة أو شركة كبرى أو حتى جماعة أو بلد – شراء نائب أو سيناتور في كثير من الديموقراطيات الغربية. لكن ربما كانت قوانين اللوبي والمال السياسي الأكثر وضوحا والوسع نطاقا في أميركا عن غيرها.

وبما أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية أصبحت الآن بعد أقل من عام، فقد بدأت حملات جمع التبرعات وبدأت شركات اللوبي تنشط في جمع الملايين وتحديد المرشحين الذين ستعمهم بالمال السياسي على حسب المتبرعين والمساهمين من الأفراد والمؤسسات والأعمال والشركات. وهكذا، إذا كان لديك بضع ملايين الدولارات الفائضة عن الحاجة، يمكنك أن تشتري نائبا أو حتى سيناتور من الآن: تراهن عليه وتتبرع لحملته كي يدخل الكونغرس في نوفمبر. المهم طبعا أن تكون لك مصلحة كي يؤثر ذلك السياسي فيها بما يفيدك، فأنت لن تشتري سيناتور لمجرد أن تتصور معه!

لحظة! نعم، يمكن أن تكون المصلحة أن تتصور مع السناتور وتستخدم تلك الصورة في تسهيل أمور مع شركاء يظنون أنك "شخص نافذ له علاقات في أعلى المستويات". لكن ذلك لا يحتاج أن تشتري سيناتور، إذ يكفي أن تتبرع في حفل خيري يحضره وتتصور معه. هذا مثلا ما كان يفعله إمبراطور العملات المشفرة المدان جنائيا الشهر الماضي سام بانكمان – فرايد مؤسس شركة إف تي إكس المنهارة الذي بدد عشرة مليارات دولار من أموال عملاء وقعوا في وهم الثراء السريع من المشفرات. لم يشتر سام سيناتور، لكنه شارك في حفلات خيرية لجمع التبرعات حضرها سياسيون ومشاهير وأخذ الصور معهم.