لا حديث اليوم في أروقة السياسة - بالإضافة إلى مقتل زعيم فاغنر - سوى عن توالي محاكمات الرئيس ترامب الذي سلم نفسه يوم الخميس إلى السلطات في أتلانتا بسبب تهم جنائية.

ومن قبلها تم احتجازه في نيويورك بسبب الاتهام بدفع أموال لأغراض سرية ومن بعد ذلك سلم نفسه في يونيو الماضي لإحدى المحاكم في ولاية ميامي على خلفية قضية تخص سوء التعامل مع وثائق سرية بالإضافة إلى أنه خلال هذا الشهر تم وضعه رهن الاعتقال في واشنطن بسبب قضية تتعلق بمحاولة إلغاء نتيجة الانتخابات للعام 2020.

وكل ما سبق هو(سابقة) في التاريخ الأميركي لم تحدث من قبل، لكن السؤال الأهم هنا هل هذه الدعاوى والقضايا قد تمنع الرئيس ترامب من خوض الانتخابات المقبلة؟

البعض يتحدث عن نقطة أعتقد أنها (هامشية) في هذا الشأن وهي نقطة (تضارب المواعيد) بين إجراءات التقاضي والحملات الانتخابية وصولا إلى إجراء تلك الانتخابات وهل سيؤثر ذلك على إمكانية فوز ترامب بها أو حتى مشاركته؟

الرئيس ترامب نفسه يعترف بأن تلك الإجراءات القضائية قد تهدد مصير حملته لذلك طلب موكلوه تحديد أبريل من عام 2026 أي بعد 3 أعوام من الآن لمحاكمة الرئيس السابق بالتهم الفيدرالية التي تم توجيهها إليه أي بعد سنتين من وصول رئيس البيت الأبيض الجديد سواء أكان ذلك الرئيس هو موكلهم أم الرئيس الحالي أم شخصا آخر؟

وعموما فإن القاضية (تانيا تشوتكان ) ستصدر بعد يومين أي في الـ28 من هذا الشهر قرارها بشأن موعد المحاكمة.

اللقاء الذي جمعني للحظات بالرئيس ترامب في المنتجع الخاص به والذي يرتاده كل فريقه السياسي لم يكن ممكنا فيه طرح أسئلة سوى الإعجاب بقدرة هذا الرجل على تحمل هذه المشاكل والقضايا التي تحيط به من كل جانب وكم كنت أتمنى سؤاله عن تلك الخطة أو الاستراتيجية التي سيعتمدها هو ومحاموه لمواجهة تأثير تلك القضايا على خوضه للانتخابات و(التشويش) على تلك الشعبية الجارفة التي يحظى بها في استطلاعات الرأي.

ولا بد من الاعتراف أن هذه القضايا والدعاوى أيقظت لدى كثير من داعمي ترامب الرغبة في دعم مرشحهم حتى النهاية، حيث أصبحوا مقتنعين بأن الرئيس(بايدن) يهدف من خلال أمره بمحاكمة ترامب الآن أن يشغل مرشحهم الجمهوري بإضاعة الوقت والمال عبر عدم تمكين ترامب من إيجاد الوقت (الضروري) لناخبيه مع اعتراف أولئك الناخبين بأن تلك القضايا زادت من شعبية مرشحهم حتى بين صفوف الجمهوريين أنفسهم.

وهنا يرد سؤال آخر. هل يمكن أن يفوز ترامب بالانتخابات وهو خلف القضبان؟ من الناحية القانونية يمكن للشخص الترشح للانتخابات ولو أدين وأصبح داخل السجن ونتذكر هنا أن المرشح الاشتراكي (ليندون لاروش) ترشح عام 1992 للانتخابات وكان مسجونا بتهم الاحتيال والتهرب الضريبي لكن القضايا التي يواجهها ترامب الآن يصعب - ولكن لا يستحيل - أن يأمر القضاة فيها بالسجن على مرتكبي تلك المخالفات والجنايات من المرة الأولى.

خلال نقاش هنا في واشنطن وبجوار الكابيتول مع أحد القانونيين قال لي عند توجيه سؤال له حول إمكانية خسارة ترامب حتى ولو لقضية واحدة أن هناك تدابير قانونية لإيجاد مخرج لهذا الأمر كالاعتماد على القضاة الذين يحتفظ معهم الرئيس السابق بعلاقات مميزة وإشاعة أن القضايا هي (رغبات انتقامية) من خصومه ناهيك عن أن معظم الجمهوريين هم على قناعة بأن المحكمة العليا ستلغي لاحقا وبعد انتهاء المحاكمات أي إدانات وأحكام في القضايا المذكورة.

بالرغم من أن الرئيس ترامب يرى في كل القضايا الموجهة إليه أنها تافهة ولا معنى لها وأنها مفتعلة وتهدف لتسخير وزارة العدل لمنع وصوله للبيت الأبيض، فإن كل ما يتعلق بالانتخابات الأميركية هو أمر شديد الأهمية لقادة وشعوب العالم سواء أكان ذلك الأمر يسبق تلك الانتخابات كالقضايا المثارة حاليا ضد ترامب أو حتى يؤثر على حسم نتائجها كما رأينا في انتخابات 2020 كون الولايات المتحدة لها تأثير كبير على كل دول العالم وإذا كان ترامب قد فشل في إقناع القضاء بأن بايدن قد سرق الانتخابات، فإن كثيرا من مؤيدي ترامب يؤمنون بكلامه وهو بات بمثابة المشهد الأساسي في السياسة الأميركية منذ أن اقتحمها قبل أقل من 10 سنوات وفي كل ساعة يتأكد أنه المرشح الجمهوري الأوفر حظا وهو وقضاياه القانونية ستبقى الأكثر تغطية من الناحية الاعلامية طوال هذا العام والعام التالي.

عند لقاءي مع الرئيس ترامب أدركت لماذا احتار العالم في سبب تلك الكيمياء بين ترامب والمؤيدين له وما أصبح يسمى في الداخل الأميركي بـ(الانجذاب المغناطيسي) إلى هذا الشخص الذي يتملق لجمهوره بالحديث عن استياءهم وعن المعاناة والمشاكل التي تملأ حياتهم والتي لا يملك هو سوى تقديم المهدئات لها وليس الحلول الكاملة فهو (الأب) الذي يواجه المهاجرين الذين يحاولون سرقة أميركا من(أبناءه) وهو (الأميركي )الذي يرى في (المهاجرين) لصوصا يقتحمون ثقافة بلاده واقتصادها وهو قبل هذا وذاك من (زلزل) المجتمع الأميركي بوصفه طرفا يحظى في الحد الأدنى بشعور رضا غير مفهوم لدى نصف الشعب الأميركي وأكثر.

اليوم يعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أنه مستعد للاعتقال وبكل فخر في سبيل إبقاء الانتخابات الرئاسية نزيهة وأنه إن اعتقل في جورجيا فسيفتخر بذلك.

الحقيقة هي أن الرئيس ترامب دراما لا تنتهي فلا بايدن سيصفح عنه أن أدين ببعض التهم، ولا سجنه إن فاز في الانتخابات يمنعه من إدارة الدولة ولا المؤسسات السيادية ستكون سعيدة عند إدانة الرئيس السابق وسجنه ولا الحزب الجمهوري يدرك صورته ومستقبله السياسي أن تم ذلك.

مصير الانتخابات الأميركية وعلى بعد سنة ونصف من حدوثها يبدو أشبه بـ(دراما أجاثا كريستي) حيث القضاء والنيابة والمجرمون المفترضون لا يغيبون أبدا عن تفاصيل الصفحات المتقاربة في القصة ولا ترى أفقا واضحا لتدرك من خلاله الأبعاد المتوقعة لنهاية تلك القصة التي لم نرى مثلها في الديمقراطية الأميركية على مدى قرنين من الزمن ومهما نجح الفريق القانوني لترامب في مواجهة تلك القضايا فإن ذلك يبدو صعبا للغاية في ولاية جورجيا.

أخيرا. كان الله في عون خصوم ترامب فقد بات حالهم اليوم كحال (دون كيشوت) وهو يصارع طواحين الهواء محاولا هزيمتها ذلك أن ترامب بات اليوم حتى مع الحديث الذي لا ينتهي عن مصير الانتخابات الأميركية المقبلة. بات هو الحل والمشكلة.