على مدى السنوات العشر الماضية وخصوصا منذ الولاية الثانية للرئيس أوباما لم يغب الحديث يوما داخل أروقة السياسة الأميركية عن الشأن المناخي فالولايات المتحدة تعلن دوما وبوضوح أنها تبذل جهودا كبرى لمساعدة كل دول العالم في هذا الشأن.

وتنطلق الولايات المتحدة في نهجها هذا من أن التغير المناخي كارثة متنامية للعالم بأجمعه، وتلك الكارثة لابد من مواجهتها.

خلال فترة الرئيس جو بايدن وهي في سنتها الأخيرة، انطلق الأمر من أن الولايات المتحدة تحتاج إلى 30 عاما للوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالمناخ عالميا حيث الهدف النهائي هو (إزالة الكربون من قطاع الطاقة بالإضافة إلى تشغيل النقل والمباني بالطاقة الكهربائية وكذلك تحويل الصناعة)، وهذا يدل على أن الرئيس بايدن بدى أكثر التزاما محليا ودوليا فيما خص المناخ إذا ما تمت المقارنة مع فترة الرئيس ترامب.

وبشكل غير مباشر يمكننا القول إن الولايات المتحدة قدمت لنفسها والعالم خلال حكم الرئيس بايدن أكثر من 400 مليار دولار بموجب قانون الحد من التضخم حيث أدى القانون إلى تبادل الاستثمارات بين دول العالم في قطاع الطاقة النظيفة .

أما في عهد الرئيس ترامب فقد كان الهدف هو التنافس من أجل الهيمنة على سوق الطاقة العالمي حيث رأيناه أزال الضوابط البيئية التي وضعها سلفه أوباما بل أن الساسة حوله وفي الحزب الجمهوري هم في الأساس ينطلقون من قناعة إيديولوجية تشكك بمسالة التغير المناخي ويعلنون أن أصول تغير المناخ تسبب بها الإنسان، وأن علماء المناخ وراء المبالغة بما بات يسمى بالتغير المناخي.

وهنا لابد أن نشير إلى التصريح الشهير للرئيس ترامب بأنه لا يؤمن بالتقارير التي تتضمن المخاطر المناخية الخطرة التي تواجه الولايات المتحدة حيث يرى أن الاحتباس الحراري خدعة وهو بصفته رئيسا يسعى سعيا "وطنيا" لتحقيق نمو اقتصادي لا يأخذ في الاعتبار سياسات المناخ التي تؤدي إلى "الإغلاق".

في تحليلي الشخصي فإنه وفي الانتخابات المقبلة سيؤكد بايدن أنه سيساعد البلدان النامية على تسريع الانتقال إلى الطاقة النظيفة ومعالجة التلوث مما يمكن تلك الدول من المواجهة ولو بنسبة قليلة للتأثيرات الطبيعية لتغير المناخ.

وفي الانتخابات المقبلة أيضا لا يمكن أن يعود ترامب إلى استراتيجية إثارة الرأي العام ضد العمل المناخي والتي كانت بمثابة السياسة الانعزالية التي رأت في قوانين المناخ تقييدا لأكبر اقتصاد في العالم، وقد رأت الولايات المتحدة اليوم وبأم العين أن أضرارا جسيمة على رأسها زيادة التلوث في الولايات المتحدة ارتبطت بالسنوات الأربع التي حكم فيها ترامب.

فالولايات المتحدة هي أكبر مصدر لانبعاثات الكربون منذ ظهور البشرية، والرئيس ترامب يكرر بوضوح اليوم أنه سيلغي بعد فوزه في الانتخابات المقبلة ما يسمى بـ"تعويضات المناخ" للدول الأخرى والمقصود هنا تعهد أميركا بـ3 مليارات دولار لصندوق المناخ بل بات يكرر أنه سيسترد أي مدفوعات قدمتها إدارة بايدن لبعض الدول .

أما إذا نظرنا عالميا لتأثير تلك الالتزامات على الانتخابات المقبلة فالعالم سواء في دوله النامية أو غيرها يساورها القلق إزاء التزام قادة الولايات المتحدة تجاه الشأن المناخي الذي تتشعب أموره وكذلك فإن
صعوبة التكهن بانتخابات 2024 سيرتبط بها حتما، والسنوات المقبلة بعد الانتخابات الرئاسية ستحتاج ما يسمى بـ"المرونة المناخية" حيث ضرورة تقديم الدعم المالي للدول النامية التي تواجه مخاطر أعلى من بقية العالم فلقد تعهد الرئيس أوباما بـ3 مليارات لصندوق "المناخ الأخضر"، لكنه لم يدفع خلال8 سنوات سوى مليار واحد.

وذهب الرئيس ترامب بعيدا في الأوهام عندما زعم أن أميركا هي الدولة الوحيدة التي تدفع للعالم تريليونات الدولارات فيما خص المناخ بالرغم من أنه ألغى التبرعات الخاصة بصندوق المناخ الأخضر وانسحب من اتفاق باريس وشارك في كل المؤتمرات التي تخص المناخ بوفود منخفضة المستوى.

بالنسبة للناخبين الأميركيين فيرى كثيرون منهم أن مكافحة أزمة المناخ ليست أولوية للرئيس الحالي وأن إنتاج النفط الأميركي بزيادات يومية عن سلفه ترامب تؤكد أنه قد خان "ناخبي المناخ" الذين أوصلوه لمنصبه وبالتالي فإن من سيقرر عدم التصويت بسبب التقاعس عن العمل المناخي-وهم كثر- سيشكلون ولا شك تهديدا للرئيس بايدن في الانتخابات المقبلة فهو قد فشل خلال حكمه في إقرار تشريع (إعادة بناء أفضل) وهو الذي يحوي 550 مليار دولار تخصص للمبادرات المناخية والطاقة النظيفة لكنه حتما وخلال الانتخابات المقبلة سيكرر-أي بايدن- وعده بجعل الولايات المتحدة مجددا رائدة في العمل المناخي .

وخلاصة القول وفيما خص تأثير قضايا المناخ وما ستلعبه من دور على الناخبين وعلى التزامات المرشحين الرئاسيين داخل الولايات المتحدة وخارجها يمكنني أن أقول التالي:

أولا.. قبل حكم الرئيس أوباما لم تكن قضية المناخ تلعب أي دور في الحملات الانتخابية واليوم باتت قضية الاحتباس الحراري على سبيل المثال قضية محورية في الحملات الرئاسية وباتت عاملا مؤثرا في الساحة السياسية الأميركية.

ثانيا.. مهما حاول الحزب الجمهوري بمعظم أعضاءه التشكيك تاريخيا في ظواهر التغير المناخي إلا أنهم اليوم وفي مقدمتهم ترامب أصبحوا أكثر دراية بضرورة التعامل مع هذه الظواهر وباتوا يطلبون من فريقهم الحديث عن آرائهم في هذا الشأن وتبني ما أمكن من برامج داخلية لإيجاد حلول لقضايا التغيرات المناخية .

ثالثا.. بات من نافلة القول أن البشرية وخصوصا الدول التي تعاني من قدوم المهاجرين إليها لابد أن تستعد لمساعدة ملايين البشر الذين سيتعرضون لكثير من المشاكل بسبب التغيرات المناخية وبالتالي لابد من انتهاج دبلوماسية دولية تحدد معايير التعامل مع ظاهرة التغير المناخي وربما تكون المصداقية المتزايدة لسياسة أميركا في المناخ مجرد تخمينات لبعض الدول التي ترى كثرة التوترات العالمية والانقسامات الداخلية في كثير من دول العالم لكن لا يمكنها إلا أن تأخذ الموقف الأميركي من هذه القضية على محمل الأهمية الكاملة.

رابعا.. ستبقى أميركا دولة مؤثرة في العمل المناخي العالمي، وستكون ولا شك قضية "التمويل المناخي" عالميا من أهم النقاشات في السباق الانتخابي بين مرشحي الحزبين وربما كان فوز ترامب قد يثبط آمال "جيوش المناخيين" في أميركا والعالم لكنه لن يرفع عن كاهل الرجل تلك التبعات من الخسائر والأضرار التي سيحاول العالم كله وعلى رأسه الولايات المتحدة مواجهتها خلال السنوات المقبلة بسبب آثار تغير المناخ.

ولأن كان التغير المناخي يعني حدوث تغييرات كبيرة في طريقة الحياة الأميركية فهو أيضا سلاح استراتيجي للنفوذ الجيوسياسي نبقى معه في عجز عن التكهن بما سيكون له من تأثير على الانتخابات المقبلة والتي بعدها لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون لوحدها في مواجهة التغير المناخي الذي سيعصف بالعالم في عقود مقبلة.