تابعت أغلب التغطيات لقمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليتوانيا على مدى اليومين الماضيين، ولاحظت مثل غيري تركيز التغطية على الحرب في أكرانيا ودعم دول الحلف بقيادة الولايات المتحدة لكييف.

 يبدو ذلك مفهوما في ظل التصريحات المتعلقة بالجلسات العامة للقمة والبيانات الصادرة عنها. فهناك حرب تدور على حدود دول الحلف وطرفها الثاني هو القوة العسكرية التي أنشئ الحلف في الأصل لمواجهتها والدفاع عن أعضائه في حال تعرضهم لأي اعتداء من جانبها: الاتحاد الروسي.

لكني أتصور أن قمة الناتو هذا الأسبوع لم تكن كذلك، ولم تكن حرب أوكرانيا محور مناقشاتها الحقيقية أو اللقاءات على هامشها بين قادة دول الحلف الأكثر من ثلاثين دولة. ذلك على الرغم من تكرار التعهدات بالاستمرار في مساعدة كييف ودعمها عسكريا في هجومها المضاد وتأكيد ما هو معلن مسبقا من وعود تزويد أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة والطائرات والقنابل والمدرعات. فكل هذا معلن سلفا، سواء من جانب أميركا أو حلفائها الأوروبيين، وبالتالي لا يعتقد أنها أمور حظيت بوقت طويل في القمة التي استمرت يومين.

حتى بيان مجموعة الدول السبع، الذي صدر في نهاية القمة، بتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا على المدى الطويل تم التوصل إليه أيضا قبل القمة ولم تكن الاجتماعات سوى مناسبة إعلانه بعد أن تولت بريطانيا صياغته مسبقا. أما مسألة انضمام أوكرانيا للحلف فمحسومة سلفا، ولم تكن مشاركة الرئيس الأوكراني في القمة سوى على سبيل "الترضية" وإبراز "اللقطة" بأن ناتو بقيادة أميركية يدعم أوكرانيا.

حتى الإعلانات عن تقديم المزيد من العتاد العسكري لكييف من قبل دول أوروبية متفق عليه مع الولايات المتحدة مسبقا، فلا شيء يحدث من جانب الغرب في موضوع أوكرانيا إلا بالترتيب مع واشنطن. والأسلحة الاضافية، من قنابل عنقودية أو طائرات إف-16 وتدريب بعض الدول الطيارين الأوكرانيين عليها فمعلن منذ مدة.

كل هذا الدعم والتعهدات يهدف أساسا لاستمرار الحرب أكثر من تحقيق أي نصر لطرف فيها، وكل ما هو معلن عنه من أسلحة تقدم لأوكرانيا لا يحسم حربا. إنما الهدف الأول والأخير هو "التخديم" على الاستراتيجية الأميركية، الموافق عليها أوروبيا بدرجة أو بأخرى، لوقف صعود الصين وروسيا. وبعيدا عن خطاب الانشاء السياسي، فلا يعني الأميركيين مصير أوكرانيا كثيرا بقدر ما يعنيهم استنزاف موسكو وتحويل روسيا إلى "دولة فاشلة".

ضمان استمرار الحرب إذا هو الدافع لكل الدعم الذي تقرره واشنطن وتلتزم بالقدر الأكبر منه وتلزم شركاءها الأوروبيين وغيرهم بالبقية. وهذا أمر مفروغ منه لا يحتاج إلى قمة جديدة فقد سبق واتفق عليه. أما الأهم في القمة فكان "ما لم يتفق عليه بعد". وبدرجة أقل أهمية مسألة التمديد سنة أخرى لأمين عام الناتو ستولتنبرغ بسبب الخلاف حول من يخلفه في منصبه. فواشنطن رفضت طلبا بريطانيا بتولي وزير دفاعها بن والاس للمنصب. حتى المرشحة الأوروبية – أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية حاليا – لا تحظى بقبول أميركي حتى الآن. لذا صادقت القمة على التمديد لستولتنبرغ حتى يقبل الأميركيون ببديل له.

أما البند الأهم في ظني فكان موقف حلف الناتو من الصين. مع أن ذلك لم يظهر سوى في بيان لأمين عام الحلف ورد الخارجية الصينية عليه إلا أن الموضوع كان على الأرجح البند الأهم في القمة وما حولها. بيان ناتو انتقد الصين بلهجة مختلفة عن السابق، وذلك في سياق تصعيد أميركي تجاه بكين بعدما تصورت أنها ضمنت التصدي لروسيا باستمرار الحرب والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي تخنق موسكو.

تعتمد استراتيجية ادارة الرئيس الأميركي جو بايدن على أن التصدي للصين وروسيا يعزز تشكيل "تحالف غربي موسع" تقوده واشنطن ما يؤكد مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى متفردة في العالم. وإذا كان الأوروبيون اصطفوا مع أميركا في مسألة أوكرانيا لاعتبارات جيوسياسية تخصهم فالحرب تجري على أبواب دارهم التي تجاور روسيا، فإن المسألة مع الصين مختلفة إلى حد ما.

ليس فقط لاعتبارات الاقتصاد والتجارة بين الصين ودول أوروبا، وإنما لأن الأوروبيين ربما لا يرون الأمر من زاوية النظر الأميركية ذاتها. فالصين لا تمثل تهديدا مباشرا لهم مثل روسيا إذا اصبحت عدائية تجاه أوروبا. وخشية أن تظهر أصوات أوروبية ترى أنه لا مبرر لأن تخوض أوروبا معارك أميركا الخاصة، تستخدم واشنطن الحلف الدفاعي العسكري وسيلة لضان قيادتها وإنفاذ استراتيجياتها.

أما ما لم يذكره الإعلام أو يركز عليه في تغطيات قمة ناتو في ليتوانيا فهو مقترح "توسع الحلف شرقا". وشرقا هنا لا تعني فقط انضمام دول كالسويد وفنلندا التي تجاور روسيا شمالا، وإنما شرقا بمعنى في آسيا. لذا دعي إلى قمة ناتو رئيس كوريا الجنوبية ورؤساء حكومات أستراليا واليابان ونيوزيلندا. ورغم أن الأضواء لم تسلط على هذا "الرباعي الشرقي" فأتصور أنه كان أهم ما في تلك القمة التي يمكن اعتبارها قمة ناتو صينية أكثر منها أوكرانية.

خلال القمة، تم الاتفاق على تعاون أمني بين الحلف وكوريا الجنوبية وعلى فتح مكتب للناتو في طوكيو. كل ذلك ليس ببعيد عن الصين، فهي محور الاهتمام الأميركي الآن بعد روسيا. وتدفع واشنطن بالحلف ليكون رديفا لاستراتيجيتها التي تعتمد العقوبات على بكين وتقييد الاستثمارات الغربية في الصين.

صحيح أن فكرة "توسع الناتو شرقا في آسيا" ليست جديدة، وسبق أن طرحتها بريطانيا قبل نحو عامين، لكن إدارة بايدن تحتاجها الآن في صراعها مع الصين وتطلعها لقيادة الغرب والعالم منفردة.