عادت حرب صيد الأسماك بين فرنسا وبريطانيا للاشتعال مجددا بعد احتجاز فرنسا مركب صيد بريطاني والتهديد بإجراءات عقابية ضد لندن ردا على رفض بريطانيا منح تصاريح صيد للصيادين الفرنسيين طبقا لاتفاق حقوق الصيد الملحق باتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست).

والواقع أن الخلاف على الصيد بين البلدين لم ينته منذ زمن، وكانت فرنسا تتزعم حملة حقوق الصيد التي كادت تفسد مفاوضات بريكست العام الماضي وتضطر بريطانيا إلى الخروج بدون اتفاق. وأخيرا تم التوصل إلى حلول وسط مؤقتة، لكن الفرنسيين شعروا بأنهم خذلوا أوروبيا في موضوع الصيد مع بريطانيا.

منذ ذلك الحين، تتشدد بريطانيا منذ مطلع العام وقد أصبحت خارج أوروبا في منح تصاريح الصيد لكثير من السفن الفرنسية. وكاد ذلك أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية في شهر مايو الماضي حين أغلق الصيادون الفرنسيون بمراكبهم الميناء الرئيسي لجزيرة جيرسي البريطانية فأرسلت بريطانيا فرقاطتين حربيتين وكذلك فعلت فرنسا إلى المياه الاقليمية لجيرسي. لكن الخلاف تم تجاوزه وقتها أيضا بحلول مؤقتة.

صحيح أن مشكلة حقوق الصيد بين بريطانيا وعدة دول أوروبية تتشارك معها شواطئ على القنال الإنجليزي وبحر الشمال تمتد لسنوات طويلة مضت. وحتى عندما كانت بريطانيا عضوا في الاتحاد الأوروبي كانت هناك حروب صيد محار الإسكالب في ثمناينيات القرن الماضي بين بريطانيا وفرنسا وكذلك حرب سمك القد بين بريطانيا وأيسلندا قبل أكثر من نصف قرن. لكن التصعيد الحالي ليست دوافعه فقط مشاكل حقوق الصيد بل وراءه ربما إحياء لما بين الفرنسيين والإنجليز من ضغائن تاريخية امتدت لمئات السنين في قرون سابقة.

واضح أن الخلاف على صيد السمك بين البلدين، بغض النظر عن تشدد بريطانيا تجاه الصيادين الفرنسيين وتزعم فرنسا لحقوق الصيد بعد بريكست، يتجاوز موضوع الصيد نفسه. وكما قال مدير الشركة المالكة للمركب البريطاني الذي تحتجزه فرنسا إنهم، أي الصيادين، يتم استغلالهم كورقة في نزاع مستمر بين البلدين.

وما تهديد فرنسا بالتصعيد، إلى حد قطع الكهرباء عن بريطانيا، إلا تعبير عن أن خلافات سياسية أعمق تقف وراء أزمة صيد السمك. إنها "زفارة السياسة" التي جعلت وسائل الإعلام الفرنسية تشن حملة وكأن فرنسا في حالة حرب مع بريطانيا. وكذلك تفعل بريطانيا، وإن بدرجة أقل حدة لأنها في النهاية تبدو رد فعل أو ربما تعكس الطريقة البريطانية التقليدية "التشدد ببرود".

لم تنس فرنسا ما اعتبرته تآمرا بريطانياً، مع الولايات المتحدة، لحرمانها من صفقة غواصات بالمليارات لأستراليا. وإن كانت التصريحات فيما بعد حاولت التقليل من أهمية الأزمة، إلا أن فرنسا لا يمكن أن تبلع خسارة المليارات التي ذهبت مع الصفقة للندن وواشنطن. ففي النهاية "عضة البزنس أشد ألما من عضة السياسة". والآن يستمر الصراع في شكل أزمة صيد سمك، ويدفع الصيادون من الجانبين استغلال السياسة لمصدر رزقهم.

هناك مبرر قوي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتصعيد مع بريطانيا، ليس فقط بسبب أزمة غواصات استراليا. إنما لأن ماكرون على وشك الدخول في حملة انتخابات يحتاج فيها أن يبدو قويا، ويزيد من جرعة "الوطنية" التي يمكن أن تكسب له بعض الأصوات من اليمين الفرنسي. وبريطانيا الآن خارج أوروبا، وبالتالي فالتشدد معها يجعل من ماكرون وكأنه يتقدم إلى مكانة ألمانيا في ظل قيادة أنغيلا ميركل ليملأ فراغ "قيادة الاتحاد الأوروبي".

وإذا كانت فرنسا لا ترغب في إيصال علاقتها بالولايات المتحدة إلى حد التأزم بسبب صفقة غواصات استراليا، فإن النيل من بريطانيا أسهل خاصة وأنها تبدو أقرب لواشنطن منها لأوروبا – سياسيا. هي إذا عوامل سياسية بالأساس تتخفى في زي صيد السمك وزفارته.

ربما يتم تجاوز الأزمة الحالية بحلول وسط أيضا كما حدث في مايو الماضي وفي أزمات مشاكل صيد سابقة. خاصة وأن المفوضية الأوروبية، رغم عضوية فرنسا فيها وخروج بريطانيا منها، قد لا تتخذ الخط الفرنسي في الأزمة بشكل كامل حتى لا تخسر القارة ككل العلاقة الاتفاقية مع بريطانيا. لكن سيظل الخلاف بين البلدين المشاطئين للقنال الإنجليزي موجودا وقابلا للتصعيد بمبررات أخرى في أي لحظة. فبريطانيا في سعيها لإثبات أن بريكست مفيد لها لن تتوانى عن الدفع بمصالحها على حساب أوروبا، خاصة فرنسا كما حدث في صفقة غواصات استراليا. وفرنسا التي تعتبر بريطانيا "مجرد جسر أميركي عبر الأطلسي" ستجعل لندن هدفا لها في اي تنافس مع واشنطن وأيضا كمطية للصعود لقيادة أوروبا.

ورغم ما يبدو من حاجة الرئيس ماكرون الانتخابية، إلا أن ذلك الخلاف الفرنسي-البريطاني سيستمر أيا كان الرئيس في قصر الإليزيه.

وإذا كان الخلاف السياسي الآن برائحة السمك، فقد يتخذ رائحة وشكلا آخر في مرحلة مقبلة.