مع التراجع النسبي للإرهاب باعتباره العدو الجديد للحضارة الغربية ما بعد نهاية الحرب الباردة، يجري التركيز منذ سنوات على الصين – ومعها روسيا على الهامش.

الحقيقة أنه منذ وصل حجم الاقتصاد الصيني إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم وهناك قلق أميركي وغربي عموما مما اعتادوا وصفه بأنه "صعود العملاق الصيني".

وبدأت بعض التحليلات الغربية تهول من هذا الصعود بطريقة الدعاية السياسية. واستخدم السياسيون ذلك لأسباب مختلفة.

فالرئيس الأميركي جو بايدن يلعب على تلك النغمة بأن الصين تهدد "الريادة" الأميركية بل ويمكن أن تتجاوز أميركا اقتصاديا وعسكريا وفي مجالات أخرى مثل صناعات الفضاء!

صحيح أن الصين تتطور منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وكان للسياسة التي اعتمدها دنج زياو بنغ أثرا هائلا على التحول الكبير في الصين وما يمكن اعتباره ثورة ثانية بعد ما أسسه زعيمهم ماو تسي تونغ قبل ذلك بربع قرن تقريبا.

طورت الصين ما يمكن تسميته "رأسمالية مركزية"، بمعنى فتح الاقتصاد أمام الشركات متعددة الجنسية لتأتي بأعمالها إلى الصين مستفيدة من قلة كلفة الانتاج والعمالة الرخيصة، وفي الوقت نفسه التوسع في التصنيع الصيني مستفيدين من نقل المعرفة – أو حتى تقليدها – من الأعمال الغربية التي انتقلت إليها.

لكن تظل الصين يحكمها الحزب الشيوعي، وكل ما فيها يدار من قبل اللجنة المركزية للحزب.

أدى ذلك إلى نمو هائل في الاقتصاد، لكن في ظل إدارة صارمة من الدولة وإن أعطت مساحة أوسع للقطاع الخاص "الذي لا يخرج عن طوع الدولة والحزب". وغير التصنيع، شهدت الصين طفرة هائلة في قطاعات مصاحبة من العقار إلى الخدمات المالية وصناعات التكنولوجيا. وبدأ بعض رواد تلك القطاعات من رجال الأعمال يعتقدون أنهم أكبر من الدولة والحزب بملياراتهم وارتباطاتهم العالمية.

الرئيس الصيني الحالي، تشي جين بينغ، يريد أن يدخل التاريخ مثل الزعيمين ماو ودنغ.

فبدأ عملية تصحيح اقتصادي، بعدما دعم وضعه السياسي على قمة البلاد، تتضمن "ضبط" القطاعات التي شهدت "غليانا" مثل الخدمات المالية وربما العقار والتكنولوجيا أيضا.

وتعمل سلطات الرقابة والتنظيم التابعة للحكومة في بكين على تشريعات جديد متتالية في السنوات والأشهر الأخيرة يتردد صداها خارج الصين. ويغالي الإعلام الغربي في وصف تلك الاجراءات بسلبية، رغم أن أعتى الدول الرأسمالية لديها ترسانة أكبر من القوانين واللوائح المنظمة للاقتصاد والأعمال.

ناهيك طبعا عن أن الصين تظل "دولة شيوعية" وبالتالي لا يمكن الحكم على أوضاعها بمعايير ألمانيا أو أميركا ولا حتى اليابان.

ما تشهده الصين حاليا هي عملية تصحيح، كما يحدث في الأسواق الرأسمالية حين يتجاوز خط نموها سقفا معينا وتأخذ في الارتفاع قبل الاستقرار على مستوى جديد ثم تعاود الارتفاع.

الفارق أن هذا التصحيح ليس من قبيل ديناميكيات السوق والاقتصاد نفسه، ولكنه مفروض إلى حد ما من الحكومة المركزية. لكن أيا كان محركه، فهو تصحيح صيني ليس بالضرورة مثل التصحيح في السوق الأميركية أو البريطاني مثلا.

ما يثير الاستغراب هو التناقض الشديد في مواقف الغرب، من الولايات المتحدة إلى أستراليا، مما يجري في الصين وما تمثله بكين حاليا في محيطها الآسيوي والأوسع عالميا.

ففي الوقت الذي يريد جو بايدن بناء تحالف غربي على هدف مواجهة الصين وروسيا، ونسمع تصريحات تحذر من تقدم الصين وخطورة تطويرها لقدراتها العسكرية وغزوها للفضاء نجد حملة أخرى مناقضة تماما تتوقع انهيار النموذج الصيني وأنه على وشك الإفلاس ومبالغة في أخبار هبوط معدل النمو الاقتصادي ومشاكل ديون شركات كبرى وما إلى ذلك.

ويصعب أن تجد وجهة نظر منطقية في وسط مبالغات السياسة والإعلام. لكن رايان هاس، من معهد بروكينغز، كتب مقالا معقولا في مجلة فورين أفيرز ينبه فيه إلى أن السياسيين في أميركا والغرب يبالغون في تطور الصين بالحديث عن أهدافها لأن تصبح قوة عظمى تتجاوز أميركا وأوروبا.

صحيح أنه لا يجب أيضا التهوين من بروز الصين كلاعب مهم على الساحة عالميا، خاصة اقتصاديا، لكن مسألة وضعها أهدافا طموحة أو حتى امكانية تحقيق تلك الأهداف ليس بهذا التهويل الذي تصوره السياسة والإعلام. رايان هاس ترأس إدارة الصين في مجلس الأمن القومي الأميركي ما بين 2013 و2017 كما عمل في السفارة الأميركية في بكين من 2008 إلى 2013. فهو يعرف جيدا ما يتحدث عنه في مقاله بفورين أفيرز.

تلك الأصوات العاقلة القليلة تضيع في زحمة بحث الغرب عن "عدو" يتجمع على هدف مواجهته. ولننتظر قليلا لنرى إن كان صعودا جديدا للإرهاب المتطرف، ربما من أفريقيا هذه المرة، يمكن أن يحرف بؤرة الاهتمام بعديا عن الصين أم لا. ليؤكد ذلك أن "الخطر الصيني" لم يكن سوى حملة دعاية سياسية وإعلامية لا أكثر.