كلما تحدث دومينيك كمنغز، كبير مستشاري رئيس الوزراء البريطاني السابق، سبب حرجا غير مسبوق للحكومة البريطانية كلها وكشف عن الفوضى التي تسيطر على وضع سياساتها واتخاذ قرارتها.

بالطبع لا يمكن أن يؤخذ كل ما يقوله كمنغز على عواهنه، فهو مدفوع بالرغبة في الانتقام الشخصي من رئيسه السابق بوريس جونسون. كما أنه شخص متضخم الذات إلى حد كبير يكاد يقول "أنا الذي أعرف وغيري لا".

في مقابلته هذا الأسبوع مع بي بي سي، كشف مستشار رئيس الوزراء السابق عن المزيد مما يدركه الناس في بريطانيا، وعايشوه بالفعل العام الماضي، من ارتباك وفوضى في مواجهة الحكومة لأزمة وباء فيروس كرونا. ورغم أن هدفه قد لا يكون الصالح العام بقدر ما هو تشويه صورة رئيس الوزراء إلا أن بعضا مما قاله يبدو حقيقيا. حديث جونسون عن أن أغلب الوفيات من كورونا بين من عمرهم فوق الثمانين، وأن إغلاق الاقتصاد مقابل إطالة أعمارهم قليلا ليس مناسبا، أمر يصدق على أغلب المحافظين وليس جونسون فقط. فوزير الصحة السابق مات هانكوك ترك دور رعاية المسنين في بداية الوباء العام الماضي يتفشى فيها المرض ولفق التبريرات واختلق الأكاذيب لكن الناس كانت تدرك أن بريطانيا لم تعد تهتم بمسنيها.

كان دومينيك كمنغز بالنسبة لحكومة بوريس جونسون أكثر من كبير مستشارين لرئيس الوزراء، ولا عجب في ذلك إذ ينسب إليه البعض في تصعيد بوريس جونسون داخل الحزب ووصولا لكرسي رئاسة الوزراء. لا يشكك أحد في مدى براعة كمنغز، خاصة في التأثير الجماهيري عبر وسائل التواصل وابتكار "رسائل قصيرة وموحية" حتى لو انطوت على كذب وخداع. وتعود علاقة كمنغز بجونسون إلى ما قبل استفتاء بريكست عام 2016، وينسب إليه الشعار الذي يردده جونسون وكل أنصار خروج بريطانيا من أوروبا "استعادة زمام الأمور". وحكمت محكمة بريطانية بعد ذلك بأن إحدى الدعايات التي أطلقها كمنغز حول الملايين التي تذهب إلى أوروبا من أموال خدمة الصحة الوطنية البريطانية كانت كذبا وتضليلا. لكنها قبل الاستفتاء أسرت لب البريطانيين ليصوتوا بالخروج ويضع بوريس جونسون قدمه الأولى على سلم زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة.

يقول كمنغز في مقابلته الأخيرة إن اختيار جونسون لم يكن لأنه الأفضل، أو لأنه يملك رؤية واستراتيجية وانما لأنه أنسب ما يمكن "لانفاذ الأمور من خلاله". في الوقت نفسه، استفاد جونسون من مهارة كمنغز في تضليل الرأي العام حتى يشق طريقه نحو قمة السلطة. تلك العلاقة الانتهازية من الطرفين، ما كان لها أن تستمر. وفي النهاية طبعا، يكسب من هو في موقع السلطة الأعلى ليس لذكاء سياسي ربما بل لأن المكتب يمنح صاحبه قوة. لا شك أن بوريس جونسون كان يعرف كل خصال دومينيك كمنغز حين اختار أن يجعله مستشاره ومخططه، كما أن كمنغز كان يعرف خصال جونسون وأهدافه النهائية. واستغل كل منهما الآخر حتى وصل الاستغلال حده الأقصى وأصبح الفراق حتميا.

إنما الدرس الأهم هو أن تلك العلاقة تعيد للأذهان المثل القديم الذي يقول: "احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة.. فربما انقلب الصديق عدوا فكان أعلم بالمضرة". وهذا ما حدث مع دومينيك كمنغز، الذي جعله طموحه واعتماد بوريس جونسون عليه يجعله يصل إلى ما لا يصل إليه غيره من كبار أعضاء الحكومة وقيادات حزب المحافظين. ثم انقلب على رئيس الحكومة، لأنه لم يكن ليسمح له أن يفسد عليه خططه لاستقرار حكمه. وسواء كانت المشكلة زوجة جونسون، التي يتهمها كمنغز بأنها أصبحت تتدخل في كل شيء، أو ما هو معروف من اعتراض كثير من الوزراء على صرفات كمنغز ففي النهاية كان حتميا أن يترك منصبه نهاية العام الماضي. ومنذ ذلك الحين وهو يشن حملات منظمة، ومؤذية فعلا، على جونسون وبعض أعضاء حكومته. وينشر نصوص رسائل بينهما تكشف عن أمور محرجة لا يود أحد أن تظهر للعلن.

تلك مشكلة الانتهازية في الاختيار، ليس فقط لدى الحكام والقادة، ولكن على مستويات أقل تصل إلى حد الشركات والأعمال الصغيرة. كان أكثر من توسع في استخدام المستشارين في عالمنا العربي هو الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار). وأتذكر أنه قال مرة في حديث خاص ليس للعلن ما معناه أن تلك طريقته للحفاظ على الجميع بالقرب منه. فكانت وظيفة مستشار في كثير من الأحيان مجرد وسيلة لكسب المخالفين في الرأي والتوجه بربطهم براتب شهري حتى لو لم تطلب "استشارتهم" في شيء. وفي النهاية، عانى أبو عمار أيضا من بعض مستشاريه الذين انقبلوا عليه في حياته. ذلك هو الفارق بين الانتهازية والعلاقات القائمة على الشفافية والكفاءة والمصلحة العامة.