لا حديث هنا في واشنطن يمكن أن يوازي الحديث عن المفاوضات في فيينا بشأن الاتفاق النووي مع إيران مثل الحديث عن "القنبلة الإعلامية" التي حملتها تصريحات وزير الدفاع الأميركي في اليوم الأخير من شهر أبريل من أن الحرب الرئيسية المقبلة ستكون "مختلفة جدا".

حيث قال في أول كلمة سياسية مهمة له إنه على الولايات المتحدة الاستعداد لصراع محتمل في المستقبل لا يشبه كثيرا "الحروب القديمة" التي "استهلكت" وزارة الدفاع لفترة طويلة.

القراءات هنا في الولايات المتحدة لهذا التصريح الشديد الاستثنائية والتبعات أجمعت على أن الرسائل التي حملتها كلمة الوزير لا يمكن أن تخفى دلالاتها على اي متابع.. فقد دعا أوستن إلى حشد التقدم التكنولوجي وتحسين دمج العمليات العسكرية على الصعيد العالمي من أجل "الفهم بشكل أسرع، واتخاذ القرار بشكل أسرع، والعمل بشكل أسرع" وأضاف إن "الطريقة التي سنقاتل بها في الحرب الرئيسية المقبلة ستبدو مختلفة تماما عن الطريقة التي قاتلنا بها في الحروب السابقة".

تساؤلات عديدة تخص هذا الموقف من وزير الدفاع الأميركي عن محاولة فهم طريقة تلك الحروب المقبلة. من هم الأعداء المحتملون؟ وهل تنص هذه التصريحات على إجراءات محددة او تتكهن بأي صراع محدد؟ أم انها كما يرى بعض المراقبين هنا تبدو وكأنها إشارة لتحديد خطوط عريضة لأهداف مستقبلية واسعة وغامضة لقيادة البنتاغون تحت إدارة الرئيس جو بايدن؟

بداية لا بد أن ندرك جميعا أن مفهوم الحروب لم يعد كما كنا نعرفه بداية هذه الألفية حيث شهد العالم في السنوات القليلة الماضية حروبا غير نمطية، كالقرصنة الإلكترونية كما هو الحال مع روسيا خلال التدخل بشكل أو بآخر في الانتخابات الأميركية، وأيضا ما تناوله بعض المشرعين في الكونجرس ضمن تصريحاتهم عن قرصنه الخوادم الإلكترونية للمصالح الحكومية الأميركية في العام الماضي وكذلك ما شهده العالم من شبه الحروب البيولوجية وأيضا الاقتصادية، كما هو الحال مع الصين مثلا وبالتالي فلا شك أن الحروب الأميركية المقبلة ستقوم على استراتيجية جديدة في التسلح وهي مزيج من التكنولوجيا والقدرات وكيفية تنفيذها، مما يمنح قوة للجيش الأميركي ويسبب تخبطا لأعدائه في تلك الحروب.

كلام الوزير أوستن وإن لم يشر إلى ذلك التقهقر العسكري الأميركي الذي حدث منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما ومن قبله جورج بوش بالتدخل في العراق وأفغانستان واهتزاز صورة أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر، وإن لم يشر كلامه كذلك إلى أن معارك العراق وأفغانستان لم تعوض الهزيمة التي نالتها الولايات المتحدة فإن الرسائل المبطنة التي حملها كلامه تشير الى قناعة مبطنة بذلك.

اليوم تبدو الاستراتيجية الأميركية التي ينفذها البنتاغون تقوم على أساس أن على أميركا حاليا سحب قواتها والحفاظ على مخزونها الاستراتيجي العسكري لأن الحرب الأميركية القادمة هي حرب تكنولوجيا وعلم ومنافسة على من يستطيع السيطرة على مجريات الأمور عالميا وهي كذلك حرب تقوم على الردع وتعتمد على مزيج من تكنولوجيا الكمبيوتر وما يُعرف بـ"الفيزياء الكمية" والفضاء أو ما يعرف بـ"الردع عن بُعد".. أو يمكن شرح ذلك بطريقة أسهل عبر القول إن الحرب هنا لن تقوم على نزاع وصراع ومواجهة فعلية على أرض المعارك، كما حدث في العقود والقرون الماضية، بل على استخدام التكنولوجيا والفضاء كأداة للردع.

وهنا يرد السؤال الأكثر تعقيدا.. من هم الأعداء الذين تستهدفهم هذه الحروب الجديدة؟

وللإجابة على هذا التساؤل لابد من الإشارة إلى أن صعود الصين يمثل تحديا أساسيا لأميركا فهي الخصم الأكثر شراسة الذي يواجه الولايات المتحدة، مما يتعين معه على واشنطن أن تجد سبيلا للتعايش معها، بدلا من التصعيد المستمر الذي سينعكس خسارة على الطرفين بلا محالة.

أما النظام الأوتوقراطي بقيادة الرئيس الصيني شي جين بينغ فهو يطمح لتحقيق حلمه عبر إزاحة واشنطن من العديد من مواقع القيادة التي تنعم بها الآن بين أركان هذا العالم.. وإذا لم يتم إقناع الصين بأن تكبح جماح نفسها، او ان تتعاون مع الولايات المتحدة بمصداقية فسيكون من المستحيل تحاشي اندلاع حرب كارثية مقبلة وهنا يتعين على الرئيس الأميركي وفريقه صياغة استراتيجية جديدة لا يغيب عنها تصورات الحروب المقبلة التي يشير إليها أوستن.

قد يكون أساس الحرب المقبلة مع الصين اقتصاديا ذلك أنه منذ بداية القرن الحادي والعشرين، صعدت الصين لتصبح أكبر اقتصاد في العالم - بحسب نظام القياس الذي تحدد من خلاله وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أفضل معيار للمقارنة بين الاقتصادات الوطنية - وقد صارت الصين اليوم ورشة التصنيع في العالم، والشريك التجاري الأول لمعظم الاقتصادات الرئيسية، وأيضا المحرك الأول لنمو الاقتصاد العالمي منذ الأزمة المالية في عام 2008، وبنهاية عام 2021، سيكون هناك اقتصاد كبير واحد فقط أكبر مما كان عليه في بداية العام. وهو ليس الاقتصاد الأميركي.. وفي حروب مثل هذه يتعين على الولايات المتحدة جذب دول أخرى ذات ثقل إلى جانبها في ميزان القوة هذا إذا استطعت اقناع تلك الدول "بفك الارتباط" مع الصين.. وهنا يفهم طلب لويد أوستن المتكرر من قادة القوات الأميركية تقديم ملخص متجدد بشأن الصين، وكما يفهم من تصريحه في مؤتمره الاخير بأنهم سيقفون إلى جانب اليابان في بعض الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي.

بعض أعضاء الكونغرس هنا يرون أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ستكون على الدوام علاقة تنافسية للغاية، حيث ستحافظ الولايات المتحدة على التفوق التكنولوجي في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والاتصالات ‎وفي نفس الوقت ستكون هناك حاجة ورغبة ملحة في التعاون مع الصين، في مجالات الصحة والأوبئة والمناخ والإرهاب حتى من الناحية الاقتصادية يعتقدون أنه ستكون لدى الطرفين مصالح مشتركة أيضا، وبالتالي ستكون العلاقة مختلطة ما بين المنافسة والتعاون.

أما عن الإجراءات التي قد تتخذ في مثل هذه الحروب إذا ما نظرنا إلى قرار بايدن من أن الإدارة الجديدة مستعدة لتفكيك الحروب الأميركية الأبدية في الشرق الأوسط الكبير وما وراءه، وأنه عندما أعلن أن "أميركا عادت" فإنه كان يقصد استعادة الاستراتيجية الكبرى لما بعد الحرب الباردة لتقسيم العالم إلى حلفاء وخصوم وتحمل أعباء عسكرية تجاه كليهما فإن تلك الإجراءات لا يمكن إلا الانتظار وإدراك أن المستقبل هو القادر على الإجابة عن التساؤل حول أنواع هذه الحروب الجديدة وأنواع الردع العسكري الأميركي.

"الحروب المستقبلية ستكون مختلفة جدا.. وستعتمد على التطورات التقنية والتكنولوجية".. عبارة اختارها أوستن لكن ماهية قوانين تلك الحروب المستقبلية والإجراءات العملية الخاصة بها لم يحمل كلامه اي مؤشرات واضحة عليها لكن لا يمكننا هنا ان نغفل ما أعلنه ترامب قبل فترة عن تشكيل هيئة عسكرية مختصة بالفضاء تحت مسمى "قوة الفضاء الأميركية" والتي بدأت بتدشين جيوش للحروب الفضائية، تتمثل أسلحتها في الطائرات المسيرة والصواريخ الذكية المدعومة بالتطور العلمي والتكنولوجي، وفي ذات الوقت التقليل من حجم تهديدات أعداء الولايات المتحدة إلى درجة الصفر وكذلك ما يمكن أن نطلق عليه "التفاعلية الفورية" في مواقف طارئة مثل استخدام الحرب الإلكترونية للرد على تهديد أو عدوان مباشر على قطع من البحرية الأميركية مثلا على بعد مئات الأميال". وكذلك ما تعرض له الوزير في كلامه من الإشارة الى السرعة الخاطفة في ردود الأفعال والمرونة وخفة الحركة، والحوكمة الحاسوبية الشاملة لكافة العمليات العسكرية للقوات الأميركية.

تجدر الإشارة هنا إلى أن كلا من كونداليزا رايس، وهيلاري كلينتون، وزيرتا الخارجية الأميركية السابقتان في إدارتي جورج بوش، وباراك أوباما، على التوالي، أبلغتا لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، بأنهما قلقتان بشأن خطة الرئيس جو بايدن لسحب القوات الأميركية من أفغانستان، وقالت رايس إن "الولايات المتحدة ربما تحتاج إلى العودة إلى كابول مجددا".. وهنا يرد التساؤل الطبيعي بعد ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي من سياسة الحروب الأميركية الجديدة فهل أن إدارة بايدن قد وضعت استراتيجية حرب جديدة منطلقة مما أشار إليه أوستن لكنها لم تعلن تفاصيلها فيما خص أي عودة قد تحدث للداخل الأفغاني.

الخلاصة أنه لا يبدو في الأفق القريب ما يشير إلى استعداد أميركا للتراجع عن سعيها للبقاء في موقع الريادة للعالم وإن كان ذلك عبر ما يمكن أن أطلق عليه التحدي الأكبر لإثبات أنها القوة العظمى وستنجح في تحقيق ذلك، إنه تحدي الحروب بالتكنولوجيا البعيدة كل البعد عن المواجهة المباشرة.