ما تعتبره الأمم المتحدة، كقناة لتنفيذ متطلبات غربية ليست بالضرورة لصالح الليبيين وأغلب الأطراف الاقليمية المعنية بأزمة ليبيا، انجازا سياسيا باختيار إدارة انتقالية ربما لا يكون نهاية المطاف. ولا حتى الانتخابات المقررة نهاية هذا العام، والتي ستأتي بما لم تأت بها انتخابات 2014 التي خسرها الإخوان وميليشياتهم.

فتلك النتيجة التي تبدو في ظاهرها "بداية الحل السياسي للأزمة الليبية" تثير عدة أمور لا يمكن تجاهلها.

بداية، ترحيب كافة الأطراف المعنية بالشأن الليبي بتلك النتيجة ليست أمرا مطمئنا كما يبدو في ظاهره. فالحل الذي يرضي الجميع غالبا ما لا يكون في مصلحة أحد، بل يبقي على المخاطر التي فاقمت أزمات ليبيا منذ انهيار نظام القذافي قبل عشر سنوات. هذا القلق لا يتعلق بمن تم اختيارهم لقيادة المرحلة الانتقالية، فهم في الأساس باستثناء رئيس الوزراء (كندي أصله من مصراته) امتداد للمجلس الرئاسي الحاكم في طرابلس تحت سلاح الميليشيات.

إنما القلق أن تلك العملية السياسية برمتها لا تضمن على الاطلاق انهاء النفوذ العسكري التركي (ومركزه مصراته ثم طرابلس) ولا اخراج جحافل الارهابيين الذين نقلتهم تركيا من العراق وسوريا إلى ليبيا. ومن الصعب تصور أن الأمم المتحدة قادرة على تحقيق ذلك في السمتقبل، وهو ما يعني الابقاء على ليبيا كمخزن بارود يهدد شمال افريقيا وجنوب الصحراء من الساحل إلى القرن.

بالطبع هناك عدة عوامل ساهمت في الوصول إلى هذا الوضع، منها أن الأطراف الغربية الضالعة في الشأن الليبي استمدت زخما من فوز الديموقراطيين في الولايات المتحدة. ويعيد ذلك الوضع هناك إلى مساواة الارهابيين بالسياسيين، وهو التوجه الذي اعتمدته إدارة أوباما السابقة وذاقت مرارته بنسف حلفائها من الميليشيات مقر السفارة الأميركية وقتل السفير الأمريكي.

وبالتوازي، تراجع الدور العربي المعتدل في ليبيا وترك الباب أما تفاهمات روسية-تركية في مواجهة "مجموعة مالطا". وفي كلا الجناحين يجد الاخوان وجماعاتهم الارهابية مساحة قبول لعودتهم إلى السلطة واستيلائهم على قدر من ثروة عائدات النفط الليبي.

صحيح أنه لم يكن هناك سبيل في ليبيا سوى الحل السياسي، لكن في ظل الوجود العسكري التركي وآلاف الارهابيين الذي جاءت بهم تركيا لتعزيز الميليشيات الاخوانية المحلية لن يكون الحل السياسي أكثر من "تقنين" لهذا الوجود الإرهابي. وليس ذلك في مصلحة الليبيين، وبالطبع ينسكب خطره على دول الجوار وتحديدا مصر والجزائر أكثر من غيرهما. 

يمكن تفهم وجهو النظر التي ترى في مثل هذه التسوية مقدمة لتشجيع حكم مدني قوي في البلاد يتولى بنفسه "تطهيرها" من الوجود العسكري التركي والميليشيات الارهابية المرتبطة به. لكن ذلك يبقى محل شك كبير، خاصة اذا كان الاستناد في تحقيقه على الأمم المتحدة وخلفها القوى الغربية. ولنا فيما جرى في سوريا مثال حي مؤلم. فالاحتلال التركي لأجزاء اضافية من الأراضي السورية لم تنهه تفاهمات مع روسيا ولا غيرها. بل إنه يتطور يوميا ليصبح استيطانا كاملا يؤشر على أن تصبح تلك المساحات المحتلة جزءا من تركيا مثل لواء الاسكندرون.

ربما لن يمكن ضم مصراته إلى تركيا، لكن النفوذ العسكري والارهابي التركي في ليبيا لا يبدو إلى زوال. على العكس، ربما تؤدي العملية السياسية التي تتولاها الأمم المتحدة غلى توفير غطاء شرعي لهذا الوجود الارهابي مع مشاركة الإخوان في السلطة. وتلك هي المعضلة الأساسية في ليبيا.

حتى إذا لم يبد الإخوان بارزين اليوم في تشكيل الادارة الانتقالية، فتلك طبيعتهم الانتهازية حتى يتمكنون ربما عبر انتخابات ديسمبر القادم. وسيجدون وقتها غطاءا اقليميا ودوليا، من إدارة جو بايدن في واشنطن إلى المتلبرلين واليسارجية في المنطقة العربية.

للأسف الشدين، قد تكون تلك مجرد دورة جديدة في معضلة ليبيا المستمرة ولا يفيق منها المتضررون اقليميا من خطر الإرهاب إلا بعد حين. وكأننا لا نتعلم من دروس الماضي القريب جدا الذي لم تجف بعد الدماء التي سكبها الإرهاب فيه. ولننتظر حتى العام القادم حين ينفجر حادث إرهابي كبير في مصر مصدره عبر الحدود من ليبيا أو تتعرض الجزائر لعمليات ارهابية مصدرها عبر الحدود من ليبيا. وساعتها سيكون على دول الجوار أن تواجه خطرا استفحل تحت ناظريها.

ولن يجدي حينئذ لوم الأمم المتحدة، أو مطالبة العالم "بتحمل مسؤولياته". ومن الآن يمكننا القول أنه سيكون علينا لوم أنفسنا، لأننا لم نجتث ذلك الخطر من الأساس قبل أن نغطيه بتسوية منحناها الشرعية في ظل عملية نفاق دولية. والجدل بأن حل مشكلة ليبيا هو فقط بيد الليبيين مردود عليه بأن الترك والارهابيين ليسوا ليبيين.