تكمن أحد الإشكالات العميقة في النظام السياسي العراقي في هيمنة الآنية والعشوائية التي طبعت خطواته التالية بعد التأسيس في 2005، ما قاد إلى الكثير من التشويه لهذا النظام وإخراجه من مسار ممكن من التطور المنطقي والمتراكم الذي يقود إلى النضج.

 حتى مع الأخطاء الفادحة المتعلقة بروح الاستعجال والغلبة التي صنعت منتصرين ومهزومين في سياق عملية وطنية ينبغي أن تكون تشاركية وتعاونية ككتابة الدستور العراقي ثم التصويت عليه وإجراء أول انتخابات برلمانية في ظله، في أجواء عامة سلبية، سياسيا واجتماعيا، كانت أقرب بكثير للاحتراب الأهلي منها للتنافس السياسي، حتى مع كل هذه الأخطاء، كان هناك مجال للتصحيح والتعديل تاليا وتدريجيا.

لكن ما حدث كان المعاكس لذلك تماما، بسبب سلوك الطبقة السياسية الحاكمة الجديدة، خصوصا في تحالفها الشيعي-الكردي، الذي صنع تقاليد سياسية انتهازية تتمحور حول مصالح الأحزاب وليس مصالح المجتمع وحاجات الدولة.

اعتمد هذا السلوك على تأجيل البت فيما هو إستراتيجي ووطني لصالح ما هو تكتيكي وحزبي. تركز الكثير من الإهتمام على ترسيخ المحاصصة وتوزيع مناصب الدولة على الأحزاب، وعلى الصراع على الميزانيات السنوية، وحصة كل مجموعة فيها، فيما تراجع الإهتمام، أو كاد ان يختفى، بالإجراءات الرقابية المتعلقة بصحة الصرف ونزاهته وارتباطه بالصالح العام، فضلا عن الضعف الواضح، حد عدم الاهتمام، بمتابعة الأداء وتحسينه ومعاقبة الفاشلين ورفض ترسيخ المساءلة كسلوك حكومي وبرلماني وتنفيذي. مرة أخرى، كانت الإرادات الحزبية، أهم وأعلى وأقوى من المصلحة الوطنية وحكم القانون.

أحد أبرز الأمثلة على التحزيب المبكر للدولة وضمان تمثيلها لمصالح القوى السياسية والأحزاب وليس مصالح المجتمع أو الشعب هو تشويه عمل مكاتب المفتشين العموميين، وصولا الى القتل التدريجي لفكرة صحيحة ثم الغائها قانونا. في 2004 أصدر الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر، أمر سلطة الائتلاف رقم 57، المتعلق بتشكيل مكاتب المفتشين العموميين في الوزارات العراقية. كان غرض هذا الأمر، الذي أصبح قانونا عراقيا نافذا، هو، بحسب كلماته، "إخضاع أداء الوزارات لإجراءات المراجعة والتدقيق والتحقيق بغية رفع مستويات المسؤولية والنزاهة والإشراف في أداء الوزارات، وبغية منع وقوع أعمال التبذير والغش وإساءة استخدام السلطة." كان ذلك من خلال إنشاء "مكاتب مستقلة للمفتشين العموميين تمكنهم من القيام بإجراءات التحقيق والتدقيق والتقييم والتفتيش وأي نشاط آخر لمراجعة الأداء وفقا للمعايير المهنية المتفق عليها عموما".

أعطى الأمر للمفتش العمومي، الذي يعمل معه مكتب متخصص يقوده هو، الحق المطلق في القيام بإجراءات التحقيق والتفتيش والتدقيق المالي، من دون قدرة أي طرف آخر، بضمنه الوزير، على منعه من تنفيذ هذه الإجراءات المنصوص عليها في الأمر. بموجب هذا الأمر، كان بمستطاع المفتش العمومي إخضاع أعمال الوزير للإجراءات نفسها ورفع تقرير بحقه، في حالة مخالفته القانون او إساءته التصرف، لرئيس السلطة التنفيذية، فيما يُرفع التقرير بحق من هو أدنى منصبا من الوزير إلى الوزير نفسه. مَنحَ هذا الأمر، المستعار مع بعض التحويرات من النظام الإداري الأميركي، سلطات واسعة للمفتش العمومي بينها استدعاء الشهود و تحليفهم اليمين، وأثار جدلا عراقيا بين الاختصاصيين بسبب بعض الغموض فيه واحتمالات تعارضه مع قوانين عراقية أخرى.

حتى برغم كونه غير مألوف عراقيا، مَثَّلَ هذا الأمر تطورا مهما في السعي المؤسساتي لردع الفساد وتطوير الأداء. لكن لم يستغرق الأمر طويلا قبل أن يتم إفساد هذا الأمر الاستثنائي وتسييسه بحجج شتى، إذ سرعان ما أُخضع المفتشون العامون لسلطة الوزراء الذين هم عموما شخصيات سياسية وحزبية، ومنحهم حق الفيتو على عمل مكاتب المفتشين العموميين. هذا فضلا عن تحزيب منصب المفتش العمومي نفسه، فبدلا من أن يكون مستقلا، جرى تعيين مفتشين عموميين كثيرين تابعين لأحزاب سياسية، كان بعضهم يقوم بتوظيف مكاتبهم للقيام بإجراءات انتقامية ضد من يختلف معهم في الوزارة أو إمضاء إرادة حزبه في استهداف جهة "معادية" واستثناء أخرى تُعتبر "حليفة". تدريجيا، وعلى مدى السنوات التالية، أطاح السلوك السياسي العراقي بفكرة عظيمة، وحولها إلى عبء على الدولة، بعد إفراغها من محتواها، لتُصدر حكومة عادل عبد المهدي أمراً ديوانياً في 2019 بإلغاء هذه المكاتب.

استمر تحزيب مؤسسات الدولة وتسييسها على نحو مضطرد. المثال الأبرز بهذا الصدد هو استخدام القضاء لسلب استقلال المؤسسات المنصوص دستوريا على استقلالها، كما في قرار المحكمة الاتحادية في 2011 بالسماح بإشراف الحكومة على الهيئات المستقلة كالبنك المركزي ومفوضية الانتخابات وهيئة النزاهة وغيرها، بدلا من أن تكون تحت الإشراف البرلماني كما هو المفروض في الأنظمة الديموقراطية. ساهم هذا القرار في جعل هذه المؤسسات إحدى أدوات الصراع السياسي وفتح أبوابها واسعا للتمثيل الحزبي فيها عبر المحاصصة، الأمر الذي أثرَ سلبيا على أدائها ومَنعَ تطورها وأفقدها الكثير من ثقة الجمهور بها.

لكن يبقى الانتصار الأكبر لمصالح الحزبية العراقية، بنوازعها الانتهازية والفاسدة، على المصالح العامة المشروعة هو فشل هذه الأحزاب المُمثلة في البرلمان التي تزعمت وأدارت الحكومة تلو الحكومة على مدى 17 عاما ماضية في تشريع قوانين أساسية ومهمة نص عليها الدستور والأهم بينها قوانين النفط والغاز وتشكيل المحكمة الاتحادية ومجلس الاتحاد. كان لتشريع مثل هذه القوانين سيُجنب البلد الكثير من المشاكل التالية، ويقلل الحاجة للصفقات السياسية التي لها أولوية على القوانين والدستور، وتقوم على الترقيع المعتاد الذي تستفيد منه الاحزاب الحاكمة وليس على حل المشاكل البنيوية والحقيقية التي تعاني منها الدولة والمجتمع.

لذلك يبدو غريبا، بل مهينا للذاكرة الجماعية، أن الطرف الرئيسي الذي ساهمَ، أكثر من غيره، في إيصال البلد إلى هذه الحالة الرثة الحالية من تسييس المؤسسات وضعف أدائها وتفشي الفساد فيها وغياب التنمية وتدهور الخدمات وانعدام ثقة المجتمع تقريبا بالدولة والخرق المنهجي للقوانين والدستور الذي تقوم به قوى سياسية وحزبية وميليشياوية نافذة، هو الذي يحاول الآن أن يحشد الجمهور سياسيا تحت يافطة الدفاع عن القانون والالتزام بالدستور وحماية الدولة، في إطار سعيه لتشكيل حكومة جديدة!!

هذا مثال صارخ جديد على انتصار الذاكرة الحزبية بانتقاءاتها الانتهازية للأحداث وتشويهها على الذاكرة الوطنية والشعبية التي ترى السوء واضحا ومعلنا وتستطيع ربطه بسهولة بالقوى الحزبية التي قادتنا إليه!