ثمة إجماع بين الساسة والمحللين أن السابع من أكتوبر، يوم شن "حماس" عمليتها المسلحة  الكبيرة والمفاجئة   في إسرائيل في منطقة غلاف غزة تمثل تحولاً مهماً، وربما حاسماً، في قصة النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني.

لا تكمن أهمية وخطورة عملية السابع من أكتوبر، بدمويتها العالية وتخطيطها البارع وجرأتها اللافتة، في قدرة حماس "المحاصرة" في غزة على القيام بها، بما عناه هذا من خروج صادم عن مألوف العمليات المسلحة الصغيرة بين الطرفين التي لا تؤثر جدياً في موازين الصراع، بل ايضاً، وعلى نحو أهم، في تغييرها البوصلة الدولية على نحو سريع وملموس بخصوص القضية الفلسطينية وكيفية التعاطي معها.

بسبب هذا اليوم ودلالة عملية حماس الاستثنائية، تغيرت القناعات الغربية من حس اللامبالاة بالمشكلة الفلسطينية العميقة أو التعب منها، وبالتالي تركها لمرور الزمن وتغير الظروف لحلها "على مهل" إلى التزام علني بضرورة حلها في المدى القريب المنظور من خلال إحياء حقيقي لحل الدولتين.

ستختبر الأيام والأحداث رصانة هذا الالتزام ومدى الاستعداد الغربي، بزعامة أميركية، للمضي فيه إلى آخر الشوط.

قبل السابع من أكتوبر، "استقر" الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في العشرين عاماً الماضية على إيقاع محدد من العنف المتبادل و"المسيطر عليه" الذي لا يغير معادلة القوة بين الطرفين وإنما يُبقى حالة الصراع قائمة والحلول مؤجلة.

في إطار هذا الإيقاع الواطئ الحدة، اعتادت حماس القيام بعملية انتحارية او هجوم محدود وسواها، فترد عليها إسرائيل بقصف بالطائرات أو توغل عسكري محدود، وهكذا على نحو مفتوح لم يتوقف منذ انسحاب إسرائيل من قطاع غزة في 2005.

هكذا مضت الأشياء بين الطرفين منذ هذا الانسحاب: بضع ضحايا من الجانبين في عمليات يبدأها أحدهما ليرد الطرف الآخر، يصاحبها تبادل الاتهامات والإدانات المعتادة بينهما بخصوص البادئ والمذنب، لكن سرعان ما يلفها النسيان الإعلامي والسياسي.

أفاد هذا الإيقاع قوى اليمين الإسرائيلي الحاكمة وحماس سويةً لأسباب مختلفة.

إسرائيلياً، كانت هناك رغبة قوى اليمين الحاكمة  بدفن حل الدولتين وفسح المجال أمام التوسع استيطانيا فضلاً عن التناغم مع الأحلام الأيديولوجية للجماعات الدينية الصاعدة والأكثر تطرفاً في اليمين الإسرائيلي بخصوص "أرض إسرائيل" (أو إسرائيل الكبرى)، تلك العبارة الإنجيلية ذات المعنى الجغرافي الغامض والمفتوح على إعادة تعريف دائمة تجعلها أحياناً تضم الأردن والضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء وفي أحيان أخرى تمتد غرباً إلى النيل في مصر لتصل شرقاً إلى الفرات في العراق.

كان هذا اليمين أيضاً مهتماً بأن يُقنع العالم بأنه ليس السبب في إفشال حل الدولتين، ليعزوه إلى غياب الجدية الفلسطينية في تبني هذا الحل وتنفيذه.

من هنا، برع بنيامين نتنياهو، بقدراته الخطابية العالية، في أن يصبح المروج الأكثر تأثيراً لحجج هذا اليمين في المحافل الدولية.

كانت الحجج التي اعتاد تقديمها بسيطة وواضحة، وبعضها ليس بعيداً عن الحقيقة:  ليس لدى إسرائيل شريك فلسطيني يمكن الاعتماد عليه في تنفيذ  حل الدولتين بسبب افتقاد الفلسطينيين لوحدة القرار السياسي والرغبة المشتركة بالتعايش مع إسرائيل.

فثمة انقسام فلسطيني حاد بين سلطتين متنازعتين في الأراضي الفلسطينية. أحدهما هي السلطة الرسمية الفلسطينية التي يتزعمها محمود عباس في الضفة الغربية التي تتمتع بالشرعية الدولية والتاريخية، والملتزمة رسمياً بحل الدولتين، لكنها عاجزة فعلياً عن الأداء والشراكة بسبب الفساد والتكلس داخلياً والفشل في إجراء إصلاحات حقيقية في مؤسساتها.

والثانية هي حماس الحاكمة في غزة وغير المكترثة أصلاً بحل الدولتين والساعية علناً لإنهاء وجود إسرائيل. جزء كبير من هذا التصوير للوضع صحيح، لكن الجزء الآخر وربما الأهم ينطوي على الكثير من التضليل.

خلاصة هذا الجزء "المسكوت عنه" هو أن إسرائيل اليمينية كانت، عن عمد، تُعمق النزاع بين هذين الطرفين الفلسطينيين الرئيسيين وتصنع الفوارق بينهما وتغذيها. تعمدت إسرائيل خنق السلطة الفلسطينية الرسمية وإضعافها من خلال حجب الموارد عنها وفرض القيود عليها، وقضم الأرض من تحتها عبر حركة استيطانية يهودية متطرفة، متصاعدة ومتغولة، تعيد فرض وقائع أمنية وجغرافية جديدة وضاغطة على هذه السلطة، وتعامل الفلسطينيين بوصفهم كائنات ثانوية وزائدة يمكن إعادة تعريفها والتعامل معها فقط على أساس حاجات الأمن الإسرائيلية.

في الوقت ذاته كانت إسرائيل تسمح بتدفق الأموال في أيدي حماس واستخدام هذه الأموال لتشييد بنية تحتية عسكرية من أنفاق وغيرها لإدامة النزاع المسلح "المسيطر عليه" معها إسرائيلياً.

رغم اتفاق حماس الضمني مع اليمين الإسرائيلي على رفض حل الدولتين، فإن أسبابها مختلفة تماماً، لكن جذرها أيديولوجي ديني أيضاً، كاليمين الإسرائيلي، ويتعلق  بإسلامية فلسطين والقضاء على إسرائيل كدولة معترف بها في ظل القانون الدولي.

فأرض فلسطين كما نص ميثاق حماس في  1988 هي "أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أو بجزء منها أو التنازل عنها أو عن جزء منها…. ومثلها في ذلك مثل كل أرض فتحها المسلمون عنوة، حيث وقفها المسلمون زمنَ الفتح على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة".

وحتى مع إصدار حماس وثيقتها "المبادئ والسياسات العامة"  في 2017 التي فُسرت بوصفها تراجعاً عن بعض مواد الميثاق، فإن حماس لم تتخلَ فيها عن إنهاء إسرائيل واستعادة كامل أرض فلسطين التاريخية من "نهر الأردن  إلى البحر الأبيض المتوسط".

لم تعطِ هذه الوثيقة أيضا موافقةً صريحة على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود 1967، التي تمثل أساس حل الدولتين، وإنما أشارت فقط وعلى نحو غامض لا يمثل التزاماً أو إقراراً أن دولة كهذه هي "صيغة توافقية وطنية مشتركة".

لم تقدم حماس خريطة قابلة للتنفيذ بخصوص كيفية تحقيق هدفها بتحرير كل فلسطين التاريخية، بل اكتفت بإعلان جهاد مسلح مفتوح لا يخضع للتقييمات المنطقية ولا للجداول الزمنية أو حساب الخسائر المبذولة مقابل المكاسب المتحققة.

كان هذا الجهاد، وما يزال، محمياً من النقد والاعتراض والمساءلة بخطاب عاطفي، عالي الحدة وشديد البلاغة، تختلط فيه الروح الثورية بالحوافز الدينية يمجد التضحية بوصفها سلوكاً طبيعياً، شجاعاً ومبدئياً، لكن من دون تقديم جردة حساب عما تحقق فعلياً على الأرض كنتيجة لهذه التضحية المتواصلة.

ما تزال الأسباب التي دفعت حماس لشن عملية على منوال "طوفان الأقصى" غامضة، خصوصاً لجهة إنهاء هذه العملية لحالة تعايش الخصوم الضمني والاضطراري الذي ساد بينها وإسرائيل منذ 2005.

لكن النتيجة الأهم لهذه العملية أصبحت واضحة وهي رفض عالمي بقيادة غربية لاستمرار الوضع بين الطرفين —القائم على التوتر المُسيطر عليه —على ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر.

يعني هذا إقامة دولة فلسطينية تتعايش مع إسرائيل وتضع نهاية لدورة  العنف الذي حكم علاقة الطرفين على مدى قرن تقريباً. هذه بداية صعبة فعلاً، لكنها، إن نجحت، ستمثل تحولاً إيجابياً في حاضر الشرق الأوسط ومستقبله.