تثار في الولايات المتحدة الأميركية وخارجها شكاوى من هيمنة حزبين رئيسيين، هما الحزب الجمهوري والديموقراطي، يتداولان السلطة ويديران السياسة بينهما على نحو يحدد خيارات الناخبين ويسمح للساسة بالتواطؤ بينهم لخدمة مصالحهم على حساب مصالح الناخبين.

صحيح أن تعدد الأحزاب بما يتجاوز هذه الثنائية هو أمر افضل نظريا ويمكن الحكم عليه عمليا إذا تحقق، لكن النظام الحالي القائم على هذين الحزبين اثبت نجاحه ايضاً. تتغذى المطالبات بمغادرة نظام الحزبين الرئيسيين كثيراً على إحباط قطاعات شعبية تضررت كثيراً من التحولات الاقتصادية الكبيرة التي شهدها البلد خلال العقود القليلة الماضية كالعولمة، واحياناً أخرى على سوء فهم لطريقة عمل النظام الحزبي، فضلا عن ساسة يستثمرون دورياً، لأسباب انتخابية، في الهجوم على نظام الحزبين الرئيسيين على أنها نوع من احتكار السلطة والقرار وذلك في سياق تقديم أنفسهم كخيار ثالث وجديد (لم تنجح أي من تجارب تقديم مثل هذا الخيار).

في هذا السياق يفكر حزب ناشئ جديد، تشكل في عام 2010، تحت عنوان "بلا أسماء" تقديم مرشح رئاسي لحزب ثالث لينافس الرئيس جو بايدن وخصمه الجمهوري المحتمل، دونالد ترامب، في سياق حجة يقدمها هذا الحزب بأن الجمهور الأميركي قد مل من "الخيارات المتطرفة يسارا (الحزب الديموقراطي) ويميناً (الحزب الجمهوري)." بعيدا عن دقة هذا التوصيف من عدمه، يمثل تقديم هذا الحزب مرشحه وخوضه الانتخابات الرئاسية في 2024 ، وهو القرار الذي لم يتخذه الحزب لحد الآن، فما يزال الموضوع محل نقاش داخلي، تحدياً كبيراً للحزب الديموقراطي، إذ إنه سيؤدي إلى خسارة مرشح الحزب، بايدن الكثير من الأصوات على نحو قد يقود الى خسارته السباق الرئاسي لصالح ترامب. بكلمات أخرى، بدلا من الهدف المعلن للحزب بتجاوز الثنائية الحزبية المهيمنة في أميركا، سيساهم قراره بتعزيزها عبر تحسين فرص فوز حزب مهيمن على آخر. 

لكن السؤال الأهم هنا هو عن معنى تجربة نظام الثنائية الحزبية وهل هي فعلا مضرة بالولايات المتحدة كبلد؟ بشكل عام، كانت التجربة مفيدة، إذ أدت إلى وضوح الخيارات الايديولوجية والسياسية أمام الجمهور وساهمت في السهولة النسبية لصناعة القرار وتحمل نتائجه وتحقيق الاستقرار السياسي. على الجانب الآخر، ثمة انتقادات لهذه التجربة لأنها تحدد خيارات الناخبين وقد تقود الى الاستقطاب السياسي وإضعاف تمثيل الجماعات الصغيرة. مع ذلك، هذه الثنائية الحزبية ليست نتاجا للقانون أو الدستور وإنما تعتمد أساساً على خيارات الناخبين أنفسهم الذين يميلون الى الثقة بالأحزاب الكبيرة المعروفة بدلا من أحزاب صغيرة بلا سجل حكم يمكن تتبعه.  لا تنفرد الولايات المتحدة بهذه الثنائية الحزبية، إذ هي موجودة في دول أخرى مهمة مثل بريطانيا وكندا واستراليا مع بعض الاختلافات الطفيفة. لا يمكن المحاججة أن هذه الدول فاشلة وان مجتمعاتها تعاني من منظومة الحكم فيها.

أحد اسباب وجود حزبين رئيسيين في أميركا هو النظام الانتخابي في البلد الذي يقوم على فائز واحد يحصل على أعلى الأصوات (باستثناء انتخابات مجلس الشيوخ التي تشترط فائزين عن كل ولاية يحصلان على أعلى الأصوات). ساهم هذا النظام الانتخابي في تركيز الأصوات وقلة المرشحين المتنافسين والاعتماد على أحزاب قوية تستطيع تمويل الحملات الانتخابية ودعم مرشحيها سياسياً ومؤسساتياً بعد فوزهم لأنهم يمثلون التعبيرات المحلية لأفكار الحزب العامة.  

لكن يكمن السبب الأهم لوجود منظومة الحزبين الرئيسيين في موضع آخر يتعلق بالتاريخ الأميركي وتطور الحياة السياسية في البلد حتى لحظتنا الراهنة المتمثل بالنزاع التاريخي المتواصل حتى اليوم بين النزعة الاتحادية المتمثلة بالدولة، والنزعة المحلية المتمثلة بالولاية. يدعم الحزب الديموقراطي عموماً النزعة الاتحادية فيما يدعم الحزب الجمهوري النزعة المحلية.  لهذا الخلاف أصل تاريخي عميق منذ عقود تأسيس الولايات المتحدة كبلد في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، عندما قررت 13 مستعمرة بريطانية تقع كلها على الساحل الشرقي للولايات المتحدة المحاذي للمحيط الأطلسي شرقاً (الأهم بينها فرجينيا ونيويورك وبنسلفانيا وماسوشوستس)  إعلان استقلالها في 4 يوليو 1774 من بريطانيا وتشكيلها بلداً جديداً تحت اسم الولايات المتحدة الأميركية. ارتبطت أسباب الاعلان والرغبة بالاستقلال بعدم وجود تمثيل لهذه المستعمرات في البرلمان البريطاني رغم دفعها الضرائب لبريطانيا واستياء المجاميع المؤثرة اقتصادياً في هذه المستعمرات من السياسة البريطانية، غير الفعالة اصلاً، التي كانت تسعى لمنعهم من التوسع غرباً والاستيلاء على الأراضي التابعة للقبائل المحلية "الهندية". سريعاً برز هذا الخلاف الأساسي بخصوص كيفية إدارة شؤون البلد الجديد، الذي كان يخوض حرباً ضد بريطانيا استمرت 8 أعوام وانتصر فيها الاميركيون، بمساعدة فرنسا واسبانيا — خصمي بريطانيا حينها — في عام 1783، حين وقعت أميركا وبريطانيا معاهدة باريس التي أنهت الحرب واعترفت بأميركا دولة مستقلة. 

دارَ هذا الصراع في البداية حول السلطات التي تتمتع بها الدولة المركزية مقابل السلطات التي تتمتع بها الولايات المختلفة التي شكلتها. في البدء انتصر الاتجاه الثاني انتصاراً واضحاً بتشريع أول دستور للولايات المتحدة في عام  1778 ليدخل في حيز التنفيذ في 1781. أقر هذا الدستور ان الولايات ال 13 مستقلة وصاحبة سيادة وأن الذي يجمعها هو "رابط الصداقة." لم يسمح هذا الدستور للحكومة المركزية بإنشاء جيش وطني—خوفاً من سلطة جديدة قوية وظالمة— او فرض الضرائب على الولايات أو تنظيم التجارة بينها، كما  كان بإمكان أي ولاية رفض تطبيق القوانين التي يمررها الكونغرس. لكن سرعان ما اكتشفت هذه الولايات الفخورة باستقلالها ومجالسها التمثيلية إن هذا الترتيب الكونفدرالي الطابع مضر بها، إذ ساهم بتدهور الوضع الاقتصادي للولايات نفسها فيما فشلت الحكومة المركزية في مواجهة حالات التمرد المسلح بسبب افتقارها للقوة العسكرية. مَثَل الدستور الثاني، المُشَّرع في  1789، انتصاراً كبيراً لدعاة النزعة الاتحادية، إذ منح الدستور الجديد، الذي ما يزال نافذاً الى اليوم، الكثير من الصلاحيات للحكومة المركزية كتأسيس الجيش والاسطول البحري وفرض الضرائب وادارة العلاقات الخارجية. 

لم يختف الصراع بين "الإتحاديين" و"الولايتيين" في ظل الدستور الجديد. تمثل الفريق الأول بالحزب الاتحادي، أول حزب وطني أميركي ممتد في كل الولايات، الذي تشكل في عام 1789، بزعامة اليكساندر هاملتون، أحد الأباء المؤسسين، وهو اللقب الذي يُطلق على عشرات الزعماء الموقعين على الوثائق التأسيسية الأميركية: إعلان الاستقلال والدستور الأول والثاني. دعا هذا الحزب إلى سلطة اتحادية قوية وتدخل الدولة في شؤون الاقتصاد وتنظيم التجارة وفرض الضرائب العامة ودعم التصنيع وإقامة علاقات وثيقة مع بريطانيا المحافظة وليس فرنسا الليبرالية. في عهد توليه وزارة الخزانة بين عامي 1789 و1795 في ظل رئاسة جورج واشنطن، أنشأ أول مصرف اتحادي له فروع في كل الولايات كانت الحكومة الاتحادية تقترض منه. 

في مقابل هذا الحزب الذي هَيمَن على السياسة لأكثر من عقد من الزمان تشكل في عام 1792 الحزب الديمقراطي-الجمهوري بزعامة توماس جيفرسون، ثالث رئيس أميركي وحكم فترتين رئاسيتين بين عامي 1801 و1809. كان الغرض من تشكيل هذا الحزب، الذي كان يُعرف اختصاراً بالحزب الجمهوري، هو مناهضة السياسات التي تبناها الحزب الاتحادي، ولذلك دعا الى حرية التجارة واللامركزية، أي المزيد من الحقوق والسلطات للولايات على حساب الحكومة الاتحادية، وتبني الحياة الزراعية، بما يتضمنه هذا من دعم للمزارعين، والعلاقات الوثيقة مع فرنسا صاحبة القيم الثورية اللاهبة حينها.

تفكك هذان الحزبان بمرور الزمن لأسباب مختلفة، لكن القيم الاساسية التي تبناها كلاهما بقيت حية وفاعلة حتى مع أخذها تمثلات جديدة على امتداد حياة البلد والصراعات السياسية فيه. بعد تحولات كثيرة، استقر تمثيل هذين التيارين الرئيسيين في الولايات المتحدة، الإتحاديين و"الولايتيين" عبر الحزبين المهيمنين حالياً: الحزب الديموقرطي، المتشكل في عام 1828، والحزب الجمهوري المتشكل في 1854. لم تأت هذه الهيمنة من فراغ بل من حيوية هذين الحزبين ومواكبتهما التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلد، وبالتالي نجاحهما في تكوين قواعد شعبية لهما عابرة للأجيال وراسخة في الحياة العامة. الأهم من هذا كله هو نجاح كل منهما في صناعة إطار مؤسساتي مرن يمثل قيمهما الحزبية على نحو يسمح بتجديد دائم لمعنى هذه القيم وارتباطها بحياة الناس، هذه المهارة الحزبية النادرة والمعدومة تقريباً في الشرق الأوسط.  

يتبع.