على مدى أيام تواصلت في فرنسا احتجاجات وأعمال شغب على أثر مقتل شاب فرنسي من أصول جزائرية، يبلغ من العمر 17 عاماً، في سياق يبدو محفزاً، ولو جزئياً، بدوافع عنصرية، بانتظار أن يُظهر التحقيق الذي وعدت به السلطات الفرنسية الحقائق كاملةً.

الحقائق المتوفرة لحد الآن هي أن أحد رجال الشرطة أطلق النار عمداً وعن قرب على رأس نائل المرزوقي في "سيارته" المتوقفة بعد مطاردة الشرطة له أثر تجاوزه الإشارة الحمراء وقيادته السيارة بسرعة ورفضه في البداية إيقافها حسب طلب دورية الشرطة.

ادَعت الشرطة أن قتله كان دفاعاً عن النفس لأنه كان يمثل تهديداً على حياة رجالها في الدورية. فيما بعد، أظهر فيديو صَوَّره شخص عابر كان حاضراً في المشهد، كذبَ ادعاء الشرطة، إذ لم يُمثل الفتى، طالب الإعدادية والعامل في نقل البيتزا، الجالس وراء سيارته المتوقفة، أي تهديد وأن رجل الشرطة وجه الرصاصة نحو رأسه بتعمد وبرودة أعصاب.

هنا يكمن بالضبط جَذرُ العنصرية: افتراض الأسوأ أوتوماتكياً في الآخر الذي يبدو مختلفاً، في هذا السياق لون بشرة المرزوقي الذي على ما يبدو جعل رجلَ الشرطة القاتل يفترض على نحو صحيح أنه يتحدر من أصل شمال إفريقي. تعني العنصرية التمييز، المؤسساتي عادة، ضد مجموعة كاملة أو أفراد منها بسبب صورة سلبية متخيلة عن هذه المجموعة، سواءٌ كان اختلاف المجموعة طبقيا أو عرقياً أو جندريا أو اجتماعياً أو وطنياً.. الخ.

يتسق هذا التعريف مع السلوك المؤسساتي لقسم من الشرطة الفرنسية ضمن استهداف غير البيض من الأقليات الإثنية. ثمة مشكلة شبيهة في الولايات المتحدة، إذ يسقط الكثير من السود الأميركيين ضحايا لرصاص الشرطة أو سوء معاملتها. لولا رقابة الرأي العام، خصوصاً عبر تسجيل شهود في الشارع حوادث تجاوز الشرطة وعرضها في وسائل التواصل الاجتماعي، لمضت الكثير من هذه التجاوزات والاعتداءات دون متابعة ومعاقبة المذنبين الحقيقيين. يتصاعد الإحساس المبرر بالغضب والإحباط عندما يكون مرتكبو هذه التجاوزات هم أنفسهم من ينبغي أن يحتمي الناس بهم.

أحد أسباب هذه المشكلة مرتبط بطبيعة عمل الشرطة في كل مكان وزمان تقريباً: الحس الأمني العالي لدى أفرادها والاستعداد التلقائي للنظر الى الآخرين بوصفهم مصادر للتهديد خصوصاً إذا ظهرت من هؤلاء الآخرين بعض البوادر التي تشي باستعداد لديهم لمخالفة القانون. في قضية قتل المرزوقي، كانت المخالفات الصغيرة- رفض الفتى التوقف عند طلب الشرطة منه هذا وهروبه بالسيارة بسرعة عالية في شارع غير مخصص لقيادة سيارته.. -الخ- هي البداية التي قادت إلى الارتياب ثم إلى الجريمة، قتل الفتى.

لكن الحس العنصري الكامن لدى رجل الشرطة لعب الدور الأكبر في صناعة المشهد المأساوي: الاعتماد على الصورة النمطية السلبية بخصوص الآخر المختلف والتصرف على أساس هذه الصورة، أي افتراض أن هذه المخالفات ما دامت تصدر من شخص ينتمي لأقلية يُنظر إليها بارتياب وازدراء، تصبح النية الجرمية، وافتراض الشر العميق، في هذا الآخر بديهية ليُسهِّل هذا الربط المتعسف بين الأشياء التخلص من هذا الآخر أو قتله بوصفه نتيجة منطقية نالها باستحقاق!!! هذه واحدة من الاشتغالات المألوفة للعقل العنصري: اعتبار الآخر المختلف شريراً أو سيئاً بالفطرة والتعامل معه على هذا الأساس!!

العنصرية موجودة في المجتمعات القديمة والحديثة بأشكال مختلفة، ففي المجتمعات القديمة الرافدينية والمصرية والصينية والإغريقية أخذت في الغالب شكلاً جغرافياً ارتبط بالغرباء كأقوام أخرى ينظر إليها بارتياب، بوصفهم برابرة ومتخلفين، وبالتالي أدنى منزلة وأقل إنسانية أو حتى معدومي الانسانية. في عصور تالية سابقة للحداثة ايضاً، كما في الثقافتين العربية والرومانية، برزت العنصرية كتمييز عرقي ضد أقوام معينة، كثيراً ما ارتبطت بلون البشرة خصوصاً ضد السود. في إطار سعيها المنهجي المبكر لإعطاء تفسير "منطقي" ما لكل شيء على أساس علمي، بعد الانتشار التدريجي لأثر الثورة العلمية في القرن السابع عشر فصعوداً، أضافت الحداثة الأوروبية بعداً جديداً للعنصرية ساهم في ترسيخها أكثر من خلال إعطائها تفسيراً علمياً لجعلها طبيعية وتكريس تراتبية بين المجاميع الانسانية المختلفة مَثلَ الإنسان الأبيض الأوروبي بموجبها قمة الهرم الإنساني ثم تتبعه نزولاً أقوام أخرى. فمثلاً، ظهرت تفسيرات مناخية-جغرافية لشرح ما بدا للعين الأوروبية حينها تخلفاً إفريقياً وكسلاً عربياً ووحشية الأقوام الأصلية التي أطلق عليها الأوروبيون في "العالم الجديد" تسمية "الهنود الحمر."

لم يكن هذا السعي منفصلاً عن الحركة الاستعمارية الأوروبية التي تصاعدت في القرن الثامن عشر وتواصلت بعده في إطار الهيمنة الأوروبية على قارات العالم الأخرى. صاغت الحركة الاستعمارية العالم على أساس علاقة هرمية ضرورية، بين أعلى وأدنى، تتربع على قمتها أوروبا بوصفها صانعة المعنى والقيمة والبضاعة فيما الآخرون من غير الأوروبيين مجرد مستفيدين ومتلقين لهذه الصناعة. احتاجت هذه الهرمية تبريراً علمياً يُظهرها كنتيجة طبيعية ومنطقية وليس نتاجاً لتغول امبريالي جوهره سياسي-اقتصادي-أيديولوجي.

لم يتوقف هذا السعي "العلمي" لتفسير الاختلاف تفاضلياً كميزة لمجاميع على أخرى من خلال إسقاطه على المختلفين عرقياً والبعيدين جغرافياً فقط، بل امتد أيضا الى داخل المجتمعات الأوروبية لترتيب علاقات القوة فيها هرمياً باسم العلم والحقيقة كما في اعتبار المرأة كائناً أدنى على أساس وزن جمجمتها مقارنةً بالرجل مثلاً بحسب إحدى التفسيرات البيولوجية الشائعة في القرن التاسع عشر. كما فُسّر فقرُ الفقراء بوصفه عجزاً ذهنياً متأصلاً عن التفكير الجاد والذكي الذي يُترجم وجوده لدى الطبقات العليا في المجتمع الى همة وقدرة عاليتين على الإنجاز وتشكيل بصيرة كونية واخلاقية توجه هذا الإنجاز.

بإزاء هذه التفسيرات العنصرية والهرمية للوقائع والحياة والإنسان بوصفها نتاجاً لقدرة العلوم الطبيعية على "كشف الحقائق،" برزت بالاتجاه المعاكس النزعة الإنسانوية الأوروبية التي أنتجتها وطورتها تدريجياً الليبرالية الكلاسيكية. على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع تشكل وبروز "العلوم الاجتماعية" التي تدرس الإنسان والمجتمع وليس الطبيعة وقوانينها، بدأت طريقة "التفكير العلمي" هذه تدريجياً تخضع للنقاش والتساؤل وأحياناً التشكيك بها.

ازداد هذا التشكيك كثيراً في النصف الأول من القرن العشرين في سياق التوحش العالي الذي ارتبط بصعود القومية المتطرفة والروح العسكريتاريا التي رافقتها المستندة إلى فهم عنصري وهرمي للحياة والعلاقات بين الدول والشعوب، وقادت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية بنتائجهما الكارثية وكلفتهما الإنسانية الباهظة. ساهم تعلم الدروس المؤلمة وتغير الوقائع على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين في تفكيك كثير من العنصرية في الداخل الغربي والاستعمارية الأوروبية في أنحاء العالم المختلفة.

العنصرية بطبيعتها مؤسساتية، أي أن مشاعر التفوق التي يحملها شخص أو أشخاص على أساس عرقي أو هرمي إزاء الآخرين المختلفين تظل تتعلق بالانحياز والتعصب الفرديين. لكن عمل هؤلاء الأفراد في مؤسسات عامة أو خاصة تمارس نوعاً السلطة المشروعة قانونياً على الآخرين، كما في مؤسسات التعليم والقضاء والشرطة والصحة وغيرها، هو الذي يمنح مثل هؤلاء الأشخاص القوة المؤسساتية اللازمة لتحويل انحيازهم وتعصبهم إلى أفعال عنصرية يعاني منها الآخرون المختلفون والضعفاء ويفقد في ظله المجتمع الحس بالعدالة، المسؤولة عن توفيره وترسيخه وحمايته الدولةُ في إطار عقدها الاجتماعي مع المجتمع.

ما فعله الشرطي الفرنسي، فلوريان أم، الذي يعتقد أنه الذي قتل الشاب نائل المرزوقي وما فعله قبله الشرطي الأميركي، ديريك شوفن، في 2020، عندما تسبب، بتعسفه في استخدام القوة، بموت جورج فلويد، المواطن الأميركي ذي الجذور الأفريقية. قاد حادثا القتل هذين في سياقيهما المختلفين إلى غضب الرأي العام والاحتجاج في الشارع رداً على السلوك العنصري لبعض رجال الشرطة. مثل هذه الاحتجاجات السلمية، وليس تخريب الممتلكات وترويع الناس، ضرورية لمنع التواطؤ داخل المؤسسات وابقائها شفافة وعادلة في خدمة المجتمع كله بدون تمييز، وليس التسلط على أجزائه الأضعف.