على امتداد العقود الماضية، تردد كثيراً في أوساط الرأي العام العربي وفي الدوائر السياسية الرسمية وغير الرسمية مصطلح "الأمن القومي العربي" كأحد المشتركات الجامعة بين العرب أو الدول العربية الذي يفترض تعاوناً وثيقاً بين هذه الدول على أساس مواجهتها تحديات خارجية متشابهة وبالتالي فإن عليها أن تتعاون لرد هذه التحديات.

هذا الافتراض نفسه إشكالي ويقوم على فهم أيديولوجي، وليس واقعياً، لمصالح الدول العربية المختلفة. في الحقيقة، يمثل المصطلح نفسه أحد نتاجات الفكر القومي العربي التي انتشرت خارجه في إطار سعي هذا الفكر صناعة وحدة عربية سياسية واقتصادية متخيلة، لم تكون موجودة ابداً على ارض الواقع، وبقيت حلماً كبيراً لدى دعاة القومية العربية ومعظم الجمهور العربي.

ارتبط "الأمن القومي" تقليدياً ببروز الدولة الحديثة في القرن السابع عشر في أوروبا وقدرتها على الدفاع عن نفسها ضد الهجمات العسكرية الخارجية من أجل الحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها. بمرور الزمن، اتسع مفهوم "الأمن القومي" ليتضمن جوانب أخرى غير عسكرية تتعلق بالاقتصاد والسياسة والأمن بما تعنيه كل هذه من امتلاك الدولة عوامل المتانة السياسية والاقتصادية والأمنية التي يؤدي افتقادها أو ضعفها إلى تفكك الدولة او فشلها في أداء التزاماتها الأساسية نحو مواطنيها الأمر الذي يفتح الباب للتدخل الخارجي في شؤونها. في سياق الربط بين الجوانب الداخلية والخارجية في مفهوم الامن القومي، يُعرِّف الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي، جورج كينان، الأمن القومي على إنه يمثل "القدرة المستمرة للبلد بأن يمضي في تطوير حياته الداخلية بدون وجود تدخل خارجي جدي أو التهديد بمثل هذا التدخل".

برز مفهوم الأمن القومي كمصطلح متخصص وموضوع للدراسة بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً في السياق الأميركي، على أثر صعود الولايات المتحدة الأميركية كقوة رئيسية في العالم ومن ثم دخولها في صراع مع الاتحاد السوفياتي ضمن الحرب الباردة التي استمرت نحو أربعين عاماً بين المعسكرين الشرقي والغربي. كان بروز المصطلح في أميركا مؤشراً مهماً على نهاية الروح الانعزالية الأميركية عن بقية العالم، باستثناء أميركا اللاتينية، التي طبعت السياسة الخارجية الأميركية منذ تشكل الولايات المتحدة كدولة مستقلة في أواخر القرن الثامن عشر. كجزء من دخولها القوي في الشؤون العالمية، عمدت الولايات المتحدة إلى إنشاء وإعادة تكييف بعض أهم مؤسساتها المختصة بالشؤون الخارجية في إطار مفهوم الأمن القومي، ومن هناك كان تشريع الكونغرس لقانون "الأمن القومي" في 1947 ليتشكل عبره مجلس الأمن القومي الذي يقوده مستشار الأمن القومي، ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه). كانت المهمة الرئيسية لهاتين المؤسستين هي تقدير التهديدات لمصالح الأمن القومي الأميركي عالمياً وإيجاد حلول لمثل هذه التهديدات.

إذا كان الأمن القومي الأميركي قد تأطر مؤسساتياً واكتسب قدراً عالياً من الوضوح لتتشكل الكثير من المعارف والتقاليد حوله ويصبح جزءاً من وعي الجمهور بنفسه، فأنه ظل عربياً مفهوماً غامضاً وعائماً تقوده دوافع أيديولوجية وليس أطر مؤسساتية. برز الأمن القومي العربي كفهم في السياسة في سياق الهزيمة العسكرية العربية أمام إسرائيل في حرب 1948. كانت تلك الهزيمة صدمة كبرى لحكومات وشعوب الدول العربية التي أرسلت جيوشها إلى فلسطين، محفزةً بثقة عالية أن نصراً سهلاً وسريعاً سيكون حليفها إلى أن اكتشفت متأخرةً حسن تنظيم الجماعات الصهيونية المسلحة، كالهاغانا وشتيرن وأرغون، وتنسيقها العالي فيما بينها، برغم خلافاتها الكثيرة، واتحادها، وقت الشدة، إزاء عدوها العربي المشترك. بعد توقيع الهدنة التي أنهت هذه الحرب في 1949، هيمن على العالم العربي حسٌ صلد بوجود عدو مشترك لا بد من التعاون الوثيق والاستعداد الجيد لمواجهته وهزيمته في حرب لاحقة. من هنا ترسخ تدريجياً الحسُ بفلسطين واستعادتها كقضية مركزية تلتف حولها الدول العربية، وتحشد جمهورها على نحو دائم للمساهمة في فعل الاستعادة المقبل، وترتب سياساتها للتمهيد لتلك الاستعادة التي ستتخذ شكل التحرير المجيد.

في خضم كل هذا التحشيد الاجتماعي والترتيب السياسي، برز حسٌ جديد بالقومية العربية ارتبط بمعنى مختلف للمصير العربي المشترك لم يكن موجوداً قبلها واتخذ شكل التهديد الوجودي للدول العربية الحديثة الاستقلال ومنع اتحادها في أمة عربية واحدة متخيلة. في الجيل الأول للقوميين العرب في أواخر العهد العثماني، كانت القومية العربية سعياً سياسياً ذا طابع حقوقي غرضه الأساسي تأكيد الخصوصية الثقافية والسياسية العربية في إطار الدولة العثمانية عبر حصول العرب على صلاحيات وحقوق تتعلق باللامركزية في الولايات العربية وتأكيد قيم المساواة بين مواطني الإمبراطورية المترامية الأطراف من العرب والترك وسواهم.

بعد تفكك الدولة العثمانية وبروز الجيل التالي من القوميين العرب حيث أصبحت القومية العربية إيماناً علنياً، عاماً وشائعاً، اتخذت الأخيرة طابعَ المواجهة بين العالم العربي والغرب في سياق الهيمنة الأوروبية على الدول العربية الناشئة ضمن منظومة الانتداب. تدريجياً، برزت في الفهم العربي العام مفاهيم مرتبطة بالتفسير القومي للعالم مثل الاستعمار والقُطر والأمة العربية والتجزئة والوحدة والعمالة. كان الاستقلال أو التحرر من الهيمنة الأوروبية المباشرة وغير المباشرة والتطلع إلى مستقبل وحدوي مزدهر هو الهدف في هذه المرحلة من حياة القومية العربية. لكنَّ تشكل إسرائيل وقدرتها على هزيمة الدول العربية في نهاية الأربعينات أعطى القومية العربية مهمة جديدة ذات طابع انقاذي عاجل تقوم على الدفاع عن الذات ضد خطر جديد ومحدق وصعب: إسرائيل بوصفها مشروعاً إمبريالياً غربياً يهدف إلى تمزيق العالم العربي عبر نشر الآلام والصراعات فيه لمنع وحدته المرتجاة وازدهاره المستقبلي. بغض النظر عن الضعف المنطقي الجلي في هذا التفسير المؤامراتي، تشكل سريعاً عَبره مفهوم الأمن القومي العربي بعد هزيمة 1948 حيث أصبحت إزالة إسرائيل من الوجود شرطاً للاستمرار العربي في إطار علاقة ثانوية تقوم على الصراع بين الخير والشر.

كان هذا التعريف للأمن القومي العربي معبأً بالأخطاء الفادحة في فهم الذات والعالم. أحد هذه الأخطاء هو اتخاذ هذا التعريف طابعاً شبيهاً بالنسخة القديمة للأمن القومي كمفهوم كلاسيكي منذ نشوء الدولة الحديثة: الاستعداد العسكري للدفاع عن البلد والانقضاض على خصومه الخارجيين. عنى هذا عملياً تأجيل الأسئلة المهمة عربياً المتعلقة بالتنمية والحكم الرشيد والحريات وبناء دول رصينة تخدم مواطنيها بدلاً من التغول عليهم كما يحصل في معظم دول العالم العربي، خصوصاً تلك التي بنت أنظمتها الحاكمة شرعيتها السياسية والأخلاقية على خطاب هزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين. في آخر المطاف، تحول هذا التعريف للأمن القومي العربي إلى عبء هائل على هذه الدول التي تدريجياً فقدت تعاطف شعوبها معها.

يتبع