بعد أن سادت أجواء تفاؤل قبل أشهر قليلة، بخصوص قرب التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران ومجموعة الخمسة + واحد (الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن الدولي، أميركا وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا زائداً المانيا) تراجع حس التفاؤل هذا سريعاً.

ويأتي هذا التراجع السريع في حس التفاؤل بعد إعلان وزير الخارجية الإيراني الجديد حسين أمير عبداللهيان في نهاية أغسطس الماضي أن حكومة بلاده الجديدة تحتاج شهرين إلى ثلاثة من أجل صياغة سياستها بشأن إدارة الملف النووي تفاوضياً قبل استئناف جولات التفاوض مع مجموعة الدول الست التي توقفت عند الجولة السادسة في العشرين من يونيو، بعد يومين من انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية الإيرانية.

في جولات التفاوض الست بين شهري أبريل ومايو في فيينا، حقق الطرفان، بحسب مسؤولين أوروبيين، تقدماً كبيراً وكانا قريبين من حسم الخلافات المتبقية للتوصل إلى اتفاق نهائي، ثم جاء إعلان التأجيل الإيراني لبضعة أشهر. يبدو طلب التأجيل هذا، في ظاهره، منطقياً في ظل حكومة جديدة في طهران تريد ترتيب أوراقها التفاوضية، لكن حقيقة أن القول الفصل بخصوص الاتفاق النووي يعود لمكتب المرشد الإيراني، علي خامنئي، المطلع جيداً على تطورات هذا الملف، يجعل الإعلان الحكومي الإيراني سياسياً أكثر منه فنياً.

أثار إعلان التأجيل الإيراني استياءً غربياً بخصوص عدم جدية إيران في التوصل إلى اتفاق ينهي هذه الأزمة النووية، لكن تصريح عبد اللهيان قبل بضعة أيام في نيويورك في سياق حضوره اجتماعات الجمعية العمومية بخصوص اعتزام بلاده العودة في المستقبل القريب جداً إلى طاولة التفاوض أنعش بعض الآمال بإمكانية التوصل إلى اتفاق سريع يبدو الغرب متلهفاً لإبرامه وسط مخاوف غربية إن الوقت يوشك على النفاد بشأن جدوى أي اتفاق نووي.

على الأكثر، يبدو التأني الإيراني في المضي أبعد في ملف التفاوض محاولة ً لكسب المزيد من الوقت وتشكيل موقف تفاوضي إيراني اقوى وبالتالي طلب أثمان أعلى لإبرام اتفاق نهائي. فعلاوة على عدم الظهور بموقف الطرف الضعيف والمستعجل للتوصل إلى أي اتفاق للتخلص من وطأة العقوبات الاقتصادية القاسية، تستفيد إيران من الوقت الإضافي لتخصيب المزيد من اليورانيوم والضغط تفاوضياً أكثر على الطرف الغربي بشأن الثمن السياسي المطلوب للتخلص من خزينها المتزايد.

فطبقاً لمصادر إيرانية، ازداد خزين إيران من اليورانيوم المخصب في خلال الأشهر القليلة الماضية بمقدار 273 كيلوغراماً ليبلغ 16 مرة ضعف السقف الذي حدده الاتفاق النووي المبرم في 2015 الذي ينبغي ألا يتجاوز 202 كيلوغرام، إذ يُقدر الخزين الإيراني من هذه المادة الضرورية لصناعة سلاح نووي أكثر من 3240 كيلوغراما. فضلاً عن ذلك، تعتبر مراحل التخصيب المبكرة هي الأصعب تقنياً والأكثر استغراقاً للوقت وتتركز على رفع نسبة التخصيب من اليورانيوم المستخرج من اقل من واحد بالمئة إلى 4 بالمئة، ليسهل بعد ذلك رفعها إلى نسبة 20 بالمئة التي تجاوزتها إيران، وتزداد عملية التخصيب سهولة للوصول إلى نسبة 90 بالمئة الضرورية لصناعة سلاح نووي، فيما أعلى نسبة تخصيب مسموح بها لإيران حسب الاتفاق النووي هي 3.7 بالمئة.

تقنياً، ليس هناك عوائق تمنع إيران من الوصول إلى صناعة سلاح نووي، فالقضية تتعلق بالوقت فقط وليس بالقدرة التقنية. لكن ما الذي تستفيد منه إيران من تكديس خزين يورانيوم مخصب ضخم وخَطِر وصناعة قنابل نووية منه تعرف جيداً أن الغرب لن يسمح لها بها وسيلجأ إلى الحيلولة دونها بالقوة إذا لم يستطع ذلك بالتفاوض؟

فمثلاً، تصر الولايات المتحدة الأميركية على أنه في حالة التوصل إلى اتفاق نووي، فإنها سترفع فقط العقوبات المرتبطة بالنشاط النووي الإيراني دون غيرها. هذا يعني استثناء العقوبات الأميركية الاخرى ضد إيران وبينها تلك التي فُرضت عليها بسبب نشاطها في مجال الصواريخ الباليستية وعقوبات غيرها بسبب ما تعتبره الولايات المتحدة دعمَ إيران لمنظمات ارهابية، فضلاً عن العقوبات التي فرضتها أمريكا على إيران على إثر احتجاز الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران في 1979. كما ستحاول إيران إبعاد ملف صواريخها الباليستية التي تحاول أميركا إدخالها في الصفقة النووية المزمعة. ثم هناك ملف تمدد نفوذ إيران الإقليمي الذي تعتبره الدول الغربية مثار قلق لأنه يقوض الاستقرار في المنطقة ويضعف السلطات السيادية لبعض دولها كما في حال العراق ولبنان.

سياسة "حافة الهاوية" التي تقوم على دفع الأشياء إلى نهاياتها القصوى والمقلقة قبل الموافقة على إيجاد حل لها تبدو هي النهج الإيراني المتبع في عهد الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي. قد تحقق هذه السياسة مردودا سياساً أعلى في حال نجاحها، لكنها أيضاً تتضمن الكثير من المخاطر المتعلقة بالدخول في مواجهة غير مخطط لها ضد الغرب لا تملك فيها إيران الأوراق الأقوى.

يعتمد النجاح في إدارة سياسة حافة الهاوية على وجود حس دقيق بالتوقيت الصائب لنزع فتيل الأزمة قُبيل انفجارها الوشيك. وفي ظل مشكلة متشابكة ومعقدة كمشكلة الملف النووي الإيراني فيها أطراف متعددة بعضها، كإسرائيل، غير حاضرة على طاولة التفاوض وتعتبر سلاحاً نووياً إيرانياً تهديداً وجودياً ومباشراً لها، ومستعدة لعمل عسكري استباقي بهذا الصدد، يصبح من الحكمة عدم الذهاب بعيداً في اتباع سياسة "حافة الهاوية".