نهار الجمعة الحادي عشر من ديسمبر الجاري، أنهت المحكمة الأمريكية العليا آمال الرئيس دونالد ترامب في البقاء لسنوات أربع جدد في البيت الأبيض، وذلك بعدما رفضت الدعوى المقدمة من ولاية تكساس والتي طالبت بإلغاء فوز الديمقراطي جوزيف بايدن في اربع ولايات حاسمة، ميتشيغان، وجورجيا، وبنسلفانيا، وويسكونسن، ما جعل ترامب يصف قراراها بأنه خال من الحكمة والشجاعة.

مشهد مؤكد يستلفت النظر وهو أن رفض قضاة المحكمة جاء من قبل 7 من أعضاءها التسعة، والمثير أن 3 من بينهم قام ترامب بتعيينهم بنفسه، الأمر الذي يجعل من هذه المؤسسة القضائية الأمريكية العتيدة، حجر زاوية حقيقي يستند عليه الأمريكيون في إنهاء صراعاتهم القضائية، ومن غير قلق أو خوف على مسيرة الحياة الديمقراطية في البلاد.

 ولعل مسألة رحيل ترامب عن البيت الأبيض، هي تحصيل حاصل، فخلال بضعة أسابيع سيجد الرجل نفسه خارجا طائعا أو مجبرا، وإن كانت هناك رواية عن مقربين من الرجل تقول إنه ربما يذهب إلى قضاء إجازة أعياد الميلاد، وقد لا يعود، وما من أحد قادر على توقع مشاركته في حفل تنصيب بايدن من عدمه، مع الميل إلى القول بأن التكوين النفسي والعقلي لترامب لن يسمح له بذلك، فهو رجل لا يتقبل الهزيمة، وسيظل ينادي بأنه الرئيس المنتصر.

 بضعة أسئلة جوهرية تواجه الباحث في الشأن الأمريكي حول سلوك ترامب بعد نتيجة الإنتخابات الأخيرة، ومنها لماذا هذا الإصرار على أنه الفائز من جهة، وماذا عن أمريكا بعد رحيله، وهل ستكون نفسها أمريكا التي تسلمها قبل أربع سنوات أم أمريكا جد مختلفة، وما هي أوجه الاختلاف؟

بداية وبدون تعقيد المشهد هناك من يرى أن ترامب لديه الحق في أن يبقى على موقفه من الإنتخابات، فقد جرى تزوير على مستوى وطني، تم من خلال نظام ماكينات الإقتراع عينها، الأمر الذي يرقى إلى درجة مؤامرة من قلب الدولة الأمريكية العميقة ضد الرجل، وهولاء يعدوا بالملايين، ومنتشرين في طول الولايات المتحدة وعرضها، من شمالها إلى جنوبها.

فريق أخر يرى أن ترامب بتمسكه الدعائي والإعلامي حول قصة فوزه ورفضه للهزيمة، إنما يمهد لصفقة ما مع الإدارة الديمقراطية القادمة، تضمن عدم التعرض القضائي له أو توجيه إتهامات بعد خروجه من البيت الأبيض، وفي المقابل سيكون الثمن هو توقفه عن الهجوم على الإدارة الجديدة والتشكيك في شرعيتها، وحتى تتفرغ الأخيرة للقضايا المعقدة التي تجابهها واشنطن، من جائحة كورونا، والإقتصاد المعتل والمختل، إلى الاضطرابات المجتمعية الداخلية.

 على أن الإشكالية الحقيقية في بلاد العم سام موصولة بقصة أكثر خطورة على مستقبل البلاد والعباد، أنها قضية بقاء أمريكا موحدة وعلى قلب رجل واحد، أمريكا ذات النسيج المجتمعي الذي لا يتفكك، والذي كفل لها البقاء متسنمة قمة العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الساعة.

تاريخيا يعرف القاصي والداني أن أمريكا مصابة بداء الإزدواجية، وتكافوء الأضداد في الروح الواحدة، أي ما بين أمريكا المثالية وأمريكا الواقعية، وبين أمريكا الجيفرسونية وأمريكا الويلسنية، وقد جاء ترامب ليشعل نيران التشظي المجتمعي، وفيما يترك البيت الأبيض، تبدو الولايات المتحدة منقسمة بشكل غير مسبوق.

ولعل الناظر إلى نتيجة التصويت يدرك أن هناك أكثر من سبعين مليون من الامريكيين قد صوتوا للرجل، ما يعني أن له قاعدة جماهيرية عريضة في الداخل الأمريكي.

على أن الأمر الفارق في هذه الإنتخابات هو أنها جرت برسم يتجاوز التوجهات السياسية أو المنافسة بين حزبين، إذ غذتها خلافات أعمق تتصل بروح أمريكا وجذورها، ويمكننا القول بنيتها التكتونية الهيكلية .. ماذا يعني ذلك؟

بإختصار غير مخل، لقد أشعل ترامب أورار معركة لفت إليها من قبل عدد من مفكري أمريكا ومنظريها، ومنهم صموئيل هنتنجتون، في كتابه العمدة "من نحن "، ومحورها الصراع الهوياتي الكامن في النفس الأمريكي، فهناك تيار يرى أمريكا بيضاء نقية تقية من غير أن يختصم أحد من روحها، وأن الإجناس والأعراق المختلفة التي أرتحلت إليها في وقت مبكر، قد قبلت بفكرة بوتقة الانصهار، أي التخلي عن أي تمايز عرقي أو هوياتي، لصالح المجموع الأمريكي.

 على الجانب الأخر هناك من يرفض هذا التوجه، بل ويعتبره عنصري، ويرى أن أمريكا لوحة من الفسيفساء، وفيها يتوجب على كل جنس او عرق أن يحتفظ بهويته ومكوناته الثقافية، وأن يكون له الحق في أن يمد جذوره بعيدا وأن يشكل من حضوره في أمريكا جسرا مع الماضي، يصله ولا ينفصل عنه.

 نفخ ترامب في أصحاب التوجه الأول، والذين يتذكرون مشهد حمله للكتاب المقدس أمام إحدى كنائس واشنطن خلال تظاهرات الصيف الماضي، عليهم أن يتفهموا كيف أن الرجل كان يبعث برسالة إلى مريديه من المتطهرين أو البيوريتانيين، هدفها الواضح ضرورة الحفاظ على المكتسبات الخاصة بالرجل الأبيض، وعدم السماح بتغيير طبيعة التركيبة الديموغرافية الأمريكية بنوع خاص، ومن هنا أيضا يتفهم القارئ لماذا كانت مواقف ترامب من مسألة الهجرة والمهاجرين متشددة إلى حد بعيد جدا.

 بطريق أو بأخر سيغادر ترامب البيت الأبيض، لكن روح الترامبية ستظل ساكنة في عموم البلاد، وغالب الأمر فأن ترامب سوف ينفخ مرارا وتكرارا في هذه الروح لكي تظل مشتعلة، الأمر الذي لن يقوى عليه سوى توجيه الدولة الأمريكية العميقة نيران أسلحتها الخفية عليه لإجبار على الصمت.

 ترامب وكما يشيع البعض يخطط لأن يعكر صفو حفل تنصيب ترامب، وذلك من خلال الإعلان عن ترشحه للإنتخابات الرئاسية 2024، وهو أمر يعني أن سنوات بايدن الأربع القادمة لن تخلو من المناكفة السياسية، والجدل، وتوزيع الإتهامات، والأخطر من ذلك كله تعميق الشرخ في جدار النسيج المجتمعي الأمريكي، وربما يصل الأمر إلى حد التصادم والإحتراب الأهلي.

 الخلاصة: أمريكا بعد ترامب .. ليست  أمريكا  كما كانت من قبل .