تبدو الولايات المتحدة الأميركية وقت كتابة هذه  السطور، أمام تحد داخلي خطير، بل ربما أكثر خطورة من مواجهة أي اعتداء خارجي، ذلك أن الأخير هذا يمكن مقاومته بما تملكه واشنطن من مؤسسة عسكرية رقم واحد حول العالم، لكن حين ينقسم البيت  الأميركي من الداخل فإنه حكما سيتعرض للخراب، وحين  تتشارع وتتصارع  الإمبراطورية في أحشاءها، فإنها لا تثبت، بل تسقط ويكون سقوطها رهيبا، مخيفا، مزلزلا  لعموم البسيطة وليس لها

لا تبدو أن هناك حظوظا تذكر لبقاء الرئيس ترامب في منصبه، لا سيما بعد تأكيدات من كل الولايات بأن الفرز قد جرى بشكل سليم، وأن شبهات التزوير الكبرى قائمة في ذهن الرئيس فقط، وبعض أركان الحزب الجمهوري، حتى وإن كانوا من الكبار.

التحدي الذي نحن بصدده يتمثل في الساعات الأخيرة في الدعوات المليونية لأنصار ترامب، أولئك الذين مضوا إلى واشنطن، لدعم وتأييد دعاوى الرئيس القائلة  بأن إرادة الأميركيين قد تم تزويرها، وها هم يحيطون بالبيت الأبيض، والمحكمة العليا ، فيما الرئيس بسيارته " الوحش "، يجوب شوارع العاصمة الأميركية، رافعا  علامة النصر، مؤججا مشاعرهم الغاضبة.

أمران مقلقان إلى حد الرعب في المشهد الأميركي خلال التظاهرات التي عمت واشنطن  ولا يدري أحد إلى أين يمكن أن تمضي بمستقبل البلاد:

الأول: هو ظهور أشخاص لا تخطئهم العين ينتمون إلى ميليشيات يمينية أميركية، وحتى إن كانوا غير مسلحين حتى الساعة، لكن الجميع يدرك في العاصمة الأميركية أن لديهم من العتاد العسكري ما  يمكنهم الرجوع إليه وقت القارعة، هولاء وغيرهم هم الذين يطلق عليهم جيش ترامب الميليشياوي.

الثاني: هو أنه في الوقت عينه تطفو على سطح ولايات أخرى،  جماعات من الأميركيين اليساريين، وبعضهم من أقصى اليسار، وليس يسار الوسط، وهولاء بدورهم لهم دالة كبيرة على أعمال العنف والشغب، ويمكن أن يجدوا طريقهم بصورة أو بأخرى إلى  واشنطن وما حولها.

هل للمرء أن يتوقع السيناريو الأسوا الذي لا يتمناه أي عاقل أميركي أو أجنبي ؟

الذين تابعوا كتابات أصحاب كبار الأقلام في الداخل الأميركي مثل "توماس فريدمان"، منظر العولمة الأشهر، سوف ينتابهم هلع شديد، من جراء توقعاته بدخول أميركا في حرب أهلية.

 وعلى الجانب  الأخر، يدرك الذين تابعوا تقارير الأجهزة الأمنية الأميركية الداخلية، أن خطر المواجهات المسلحة العنيفة يتزايد بشكل كبير، لا سيما وأنه خلال بضعة أشهر، بيعت نحو خمسة ملايين قطعة سلاح.

المشهد الأميركي الحالي يذكرنا بعبارة للروائي الروسي الكبير تشيكوف قال فيها: "إذا  كتبت في الفصل الأول من روايتك أن هناك بندقية معلقة على الحائط ، فحتما في الفصل الثالث لابد لها أن تنفجر"، ما يعني أن شرارة العنف لابد لها أن تنطلق.

ولعل علامة الاستفهام في هذا المقام :" ما الذي يريده الرئيس ترامب على  وجه الدقة؟

 في تقرير أخير لوكالة الأنباء الفرنسية نجد جوابا مثيرا وخطيرا  في الوقت نفسه وهو أن ترامب لا يفعل سوى الإعداد لشن هجوم على المؤسسة الديمقراطية الأميركية، فيما يرى آخرون أن الرئيس  المحبط ولأن عليه ترك منصبه، فإنه سيخرج من قبعة "رجل الاستعراض "، كل ما يمكن أن يسبب الفوضى من أجل إبقاء الأضواء مسلطة عليه مهما كان الثمن.

لكن الثمن باهظ جدا، سيما وأن هناك العديد من المفكرين الأميركيين والأوربيين، أعتبروا أن هذه الانتخابات يمكن أن تكون كارثية على  مصير أميركا، ومن عينة هولاء نجد صموئيل هنتنغتون عالم السياسة الأميركي، الذي تحدث عن إشكالية التفكيك الثقافي التي تسبق الحرب الأهلية، ومنهم أيضا، عالم الاجتماع النرويجي الشهير، يوهان غالتونغ  الذي ذهب إلى أن ما  قامت به إدارة بوش الأبن قد عجل بآوان تفكك أميركا خمس سنوات ليضحى الموعد 2020 وليس 2025 كما رسم خرائطه من قبل.

يمكن القول أن محاججة ترامب بتزوير الانتخابات على أرض الواقع  لم يعد لها مجال، ولا أمل في تغيير المشهد السياسي الأميركي الداخلي، الإ أن الكارثة هي ما يجري في عقول المريدين، فعلى  الرغم من أن ترامب تحول إلى بطة عرجاء الإ أنها قد تكون بطة قاتلة أو مميتة، لاسيما وأنه يتمتع بصلاحيات الرئاسة حتى الساعة الحادية عشر وتسع وخمسين دقيقة من نهار الأربعاء 20 يناير كانون الثاني المقبل.

مؤخرا كتب الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات الأميركية، جون برينان"،  عن المخاطر التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية خلال الايام المتبقية لترامب، وحتى يوم تنصيب بايدن، يقول: "أنا قلق للغاية حيال ما  يمكنه فعله حتى ذلك التاريخ ...أنا قلق الآن مما يمكن أن يفعله هذا الرئيس الغاضب وإمكانية تهوره".

كتب الفلاسفة وفي مقدمهم إيمانويل كانت عن الغضب وكيف أنه ليس جميلا، غير أن القضية وفي زمن ترامب غير متعلقة بالجمال أو القبح، بل بمصير أميركا أولا، والعالم من ورائها ..ماذا نعني بذلك؟

ليكن الجواب بداية من عند الغضب الترامبي الشهير، والذي يمكنه أن ينفجر في وجه بعض من أعداء أميركا، وقد تكون روح الانتقام مما جرى  له في الانتخابات الأخيرة، دافعا للتورط في مواجهات عسكرية، وليس سرا أن العلاقة بينه وبين وزير الدفاع إسبر لم تكن على ما يرام، وها قد أزاح الرجل من الطريق، ووضع رجالاته والتساؤل ما الذي يخطط له؟

أما قلق العالم فهو مبرر ومعروف، إذ لا تزال الولايات المتحدة الأميركية صاحبة الدور والنصيب الأكبر في استقرار العالم أو اضطرابه، ولا يظن عاقل أن صراعا أهليا أميركا سوف يوفر القلاقل والفوضى حول بقاع وأصقاع العالم.

الذين تابعوا تصريحات ترامب نهار الجمعة الماضية، رصدوا ولاشك لحظة انكسار بادية في عيني الرجل، كما أستشف البعض الأخر فكرة قبول ترامب بهزيمته.

لكن ترامب حتى الساعة لم يقم بالاتصال التقليدي الذي يجريه كل طرف خاسر في السباق الانتخابي، وفيه يهنئ الفائز ويدعو له بالتوفيق في قيادة البلاد،  كما أنه لم يقر بشكل رسمي ونهائي بنتيجة المعركة الانتخابية.

هل باتت الكرة في ملعب أركان حزبه الكبار وعليهم إقناعه بأنه حان الوقت لفتح صفحة التصالح والتسامح؟

أعظم صنيع أخير يمكن لترامب أن يفعله هذه الأيام هو رأب الشروخات الداخلية، وترميمها قبل أن تضحى فجوات عميقة في الروح الأميركية المتشظية، والتي تعاني تقليديا من آفة تكافؤ الأضداد، ومن ثم الإنسحاب من المشهد في سلام وباقل التكاليف ضررا.

إن أراد ترامب أن يخلف من ورائه إرثا أخلاقيا ناجحا فهذه هي الساعة التي يدعو فيها لصرف الجموع الغاضبة، وقبل أن تمسك النيران بتلابيب الثوب الأميركي، ومن غير أدنى مقدرة على  إطفاء اللهيب عما قريب.