بالرغم من مضي نحو أربعة أشهر على بدء الاحتجاج العراقي في مطلع أكتوبر العام الفائت، لم يفلح معارضوه في تشكيل حجة واحدة متماسكة ومنطقية ضده.

في الحقيقة، باستثناء نظريات المؤامرة المعتادة التي تسعى لربط الاحتجاج والمحتجين بكل شياطين الأرض المحتملين والتركيز على بعض السلوكيات السلبية لبعض المحتجين الغاضبين والإصرار على اختصار كل حركة الاحتجاج الواسعة جغرافياً وديموغرافياً بها، ليس لدى معارضي الاحتجاج أي شيء يمكن اعتباره حتى حجة بمقدورهم أن يوظفوها ضد هذا الاحتجاج.

على مدى أشهر الاحتجاج المفتوحة، لم يخرج سياسي عراقي واحد  أو أحد المنتقدين للاحتجاجات ليقول مثلاً مدافعاً عن النخبة السياسية الحاكمة التي خرج المحتجون ضدها إن هذه النخبة على حق وإن الاحتجاج ظلمها أو شوهها أو أنها أنجزت شيئاً حقيقياً على الأرض للناس يتجاهله المحتجون. أصبح الخواء السياسي والوطني والأخلاقي لهذه النخبة واضحاً حد الاجماع الشعبي عليه بحيث لا تجد هذه النخبة مدافعين شعبيين أو حتى رسميين عن أدائها، بل بالعكس، هناك إقرار واسع حتى بين أعضاء هذه النخبة المختلفين بأنهم كمجموعة كبيرة متحكمة بالقرار والموارد فشلت في إدارة البلد وأن بروز الاحتجاجات ضد الفساد أمر مشروع وقانوني. بالطبع ليس ممكناً لأي سياسي عراقي أن ينكر علناً بديهة واضحة واساسية كهذه، أصبح الاتفاق عليها شعبياً لا يختلف عن الاتفاق العراقي العام بخصوص بديهة أخرى مثل كون نظام صدام حسين نظاماً قمعياً. لن تجد عراقياً، حتى من أشد الموالين لصدام حسين، يحاجج بأن نظامه كان ديموقراطياً ومنفتحاً، كما لن تجد عراقياً يقول إن النظام السياسي الحالي نزيه وناجح في أدائه.

إزاء هذا العجز عن الدفاع عن الذات والأداء، تحول اهتمام هذه النخبة السياسية وحلفائها إلى الدفاع الوحيد المتيسر لها في مثل هذه الظروف: مهاجمة سلوك المحتجين والتشكيك بنياتهم ودوافعهم على نحو يبعد النقاش عن السبب الأساسي للأزمة الحالية والاحتجاج المتمخض عنها وهو الفشل الكارثي في أداء النخبة السياسية القابضة على النفوذ والموارد. من هنا تناسلت حجج وذرائع كثيرة تشيطن الاحتجاج والمحتجين، بعضها يشبه في ابتعاده عن المنطق قصص الواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية مثل ابتداع  موضوع "عصابات الجوكر" أميركية المنشأ والتدريب، ذات القدرات الخيالية في التحرك بحرية وإيقاع أنواع الأذى والضرر المختلفة لتخريب الدولة من دون أن تستطيع القوى الأمنية الكثيرة لهذه الأخيرة أن تلقي القبض على أحد أعضائها المفترضين. وإذا كان أعضاء عصابات الجوكر المفترضين، في النص الحزبي-الحكومي للأحداث، هم فاعلين موجودين على الأرض، ويعملون بتنسيق عال وشرير في "ساحات الحدث" المختلفة والمتباعدة حيث الاحتجاجات المنتشرة في وسط البلد وجنوبه وعاصمته، فان هؤلاء "المجرمين" المتخفين مدعومون بفاعلين إلكترونيين بعيدين عنهم هم حفنة ناشطين يستطيعون "من وراء الكيبورد "بكلماتهم "التحريضية" إخراج عشرات الآلاف من العراقيين من بيوتهم ويحولونهم إلى محتجين في الشوارع!

وَفَرَ السيناريو الجاهز لـ"عصابات الجوكر" ذات القدرات الخارقة للحكومة وحلفائها الحشديين العذر المطلوب للتملص من التبعات الأخلاقية والمؤسساتية لعمليات القتل والخطف التي تعرض لها المحتجون على يد الحكومة وحلفائها، حتى وإن كان  منطق هذا التملص واهياً ويناقض بديهيات العقل. كيف يمكن لعصابات "مندسة" أن تقتل أكثر من ٦٠٠ محتج وتجرح آلافاً كثيرين على مدى أربعة أشهر من دون أن تستطيع قوى الأمن الحكومية أن تلقي القبض على شخص واحد من هذه العصابات المتخيلة وتقدمه للعدالة وتكشف شبكة هذه العصابات وطريقة عملها؟ وعلى الرغم من غزارة الأدلة المنطقية والصورية والعيانية على مسؤولية قوى أمنية حكومية وحشدية عن عمليات قمع المحتجين، قتلاً وجرحاً وخطفاً، كانت ضراوة التمسك الحكومي والحشدي بنظرية "عصابات الجوكر" في تفسير قمع المحتجين تخفي وراءها عجزاً رسمياً فاضحاً عن صياغة خطاب معقول للرد على الخطاب الاحتجاجي القوي والمتماسك بشأن مواجهة الفساد وضرورة الإصلاح الجذري وليس الترقيعي. 

لم تفلح كل تصريحات الاستنكار الدولي ولا تقارير المنظمات الحقوقية العالمية والمحلية التي حمَّلَت الحكومة العراقية، على نحو صريح، مسؤوليةَ القمع وتبعاته في أن تردع الدولة العراقية عن المضي أكثر في درب القتل والخطف وتزييف الحقائق، خصوصاً في ظل الإصرار العجائبي لرئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، عبر تصريحاته المتكررة، على أن الحكومة تحمي المحتجين وتعاملهم بطريقة أبوية! 

بعيداً عن الخيال الخصب الذي يستثمر في ابتداع أنواع مختلفة من مثل هذه السيناريوهات المؤامراتية، ينطوي هذا الطراز من التفكير على قدر كبير من إهانة العراقيين المحتجين والداعمين للاحتجاج، وهم غالبية العراقيين، عبر تحويلهم إلى كائنات ساذجة وعاجزة عن الإحساس الصادق بواقعها وعن التفكير بنفسها ولنفسها من أجل تغيير هذا الواقع  وإصلاحه بوسائل دستورية وقانونية. إنه الإنكار الحزبي- الحكومي الفج لإنسانية العراقيين وللفاعلية السياسية والاجتماعية التي تشكلت وتراكمت لديهم بعد التجارب السيئة الكثيرة على مدى الـ 17 عاماً الماضية. 

لم تكن كل الحجج المناهضة للاحتجاج وليدة الخيال المؤامراتي المعتاد، إذ استند بعضها إلى أفعال حدثت فعلاً، لكنها ضُخمت وأُخرجت عن سياقها المناسب لصالح جعلها لحظة التعريف الأساسية للاحتجاج وللمشاركين فيه، كما في حرق مقرات أحزاب وحركات سياسية وعسكرية، هي جزء من بنية السلطة الحاكمة، ومنازل لمسؤولين حزبيين وحكوميين يتهمهم محتجون إما بالفساد أو المشاركة في قمع الاحتجاجات. بالرغم من محدودية هذه الأفعال، استخدمتها الدعاية الحكومية والحزبية لوصف حركة الاحتجاج بالتخريب وتقويض الدولة وبغياب السلمية وذلك في تعامل انتقائي ومزدوج المعايير مع كامل مفهوم الاحتجاجات. فمثلاً تؤسس الأحزاب الحاكمة الحالية الكثير من شرعيتها الثورية والسياسية والأخلاقية على تبنيها أو مشاركتها في أحداث انتفاضة آذار في 1991 ضد نظام صدام حسين في جنوب البلاد وشمالها. كانت تلك انتفاضة شجاعة فعلاً في حينها، برغم ما شابها من أعمال قتل وتخريب ونهب لمؤسسات الدولة على يد محتجين أو متعاطفين معهم أو أناس غاضبين من دولة قمعتهم كثيراً. في إطار الاحتفاء العراقي الرسمي والشعبي بهذه الانتفاضة، تغيب تلك الأعمال غير القانونية في استذكارها، لصالح التأكيد الصائب على الأهم والأساسي فيها وهو استثنائيتها وجرأتها وقدرتها على تمكين العراقيين وتحفيزهم على الرد على نظام قمعي قادت مغامراته الحمقاء الى دمار البلد وافقاره.

إن الافتراض بأن جمهوراً محتجاً كبيراً، من مئات الآلاف من الأشخاص، يمتد على رقعة جغرافية واسعة، من تسع محافظات، سيتصرف كله، كل فرد فيه، بمثالية عالية في أوقات غضب شعبي مشروع هو افتراض مغلوط واقعياً ومخاتل أخلاقياً، في أحسن الأحوال.  ففي ظل سلطة أحزاب حاكمة يتصرف معظم أفرادها على نحو فاقد للنزاهة والشفافية وأبعد ما يكون عن المثالية في إدارة الحكم والموارد، تفقد مثل هذه السلطة امتياز تحديد ما هو الأخلاقي والوطني وغير الأخلاقي وغير الوطني في سلوك المحتجين ضدها. لقد وضعت حركة الاحتجاج العراقي السلطة الحاكمة وأحزابها أمام اختبارات قانونية وأخلاقية ووطنية كثيرة فشلت هذه السلطة، لحد الآن، في اجتياز أي واحد منها.