لم يصدق ديفيد كاميرون، زعيم حزب المحافظين البريطاني، عينيه حينما رأى مرشحي حزبه يحصدون مقاعد الدوائر الانتخابية الواحدة تلو الأخرى.

لكن هذه النتيجة التاريخية التي منحت حزبه الأغلبية اللازمة لقيادة البلاد خلال الأعوام الخمسة المقبلة، لن تجعل طريقه مفروشا بالورود. فأكبر تحد وجودي للمملكة المتحدة ككيان موحد منذ قرنين أو أكثر، سيأتي من (الحزب القومي الأسكتلندي) الذي نال المرتبة الثالثة في هذه الانتخابات، بعدما فاز بستة وخمسين مقعدا.

أنصار هذا الحزب لم يستسيغوا بعد هزيمتهم في الاستفتاء الذي أجري أواخر العام في أسكتلندا، وانتهى بتصويت الغالبية للبقاء ضمن المملكة المتحدة. لكن حينما جاءت الانتخابات العامة كان الاختيار لمعاقبة حكومة لندن، في إشارة إلى ضرورة منح هذا الاقليم مزيدا من الصلاحيات، التي يمكن أن تفضي إلى استقلال المقاطعة.

وهذا بالتحديد ما حمل زعيم حزب العمال المستقيل، إد ميليباند، على التأكيد في خطبة الوداع، على ضرورة عمل جميع مواطني بريطانيا على قدم وساق، من أجل ضمان وحدتها واستمرارها في الشكل الحالي.

لكن تحديات كاميرون لن تقتصر على ضمان الوحدة، بل سيضطر للوفاء بعهد قطعه على نفسه منذ سنوات وأكده بعد إعادة انتخابه، وهو تنظيم استفتاء قبل عام 2017 حول البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي من عدمه.

تشعر شريحة واسعة من البريطانيين بأن بلدهم يدفع نصيبا أكبر مما هو مقبول لتمويل تحقيق التوازن بين البلدان الأعضاء في الاتحاد القاري. بل أن حزب استقلال المملكة المتحدة بنى أجندته على معاداة موجات الهجرة، بما فيها تلك القادمة من بلدان أوروبا الشرقية المنضمة حديثا للاتحاد الأوروبي.

غير أن المملكة المتحدة، وهي مجرد مجموعة من الجزر الموجودة على مقربة من الساحل الغربي لأوروبا، لن تستطيع التخلي عن السوق الأوروبية التي يعيش فيها نحو سبعمائة مليون نسمة.

كما أن انتماءها لهذا الفضاء الاقتصادي والبشري يمنحها قوة تفاوضية إضافية مع تجمعات اقتصادية إقليمية أو مع دول منفردة.

حين عين كاميرون من جديد فليب هاموند في منصب وزير الخارجية، كان يشير إلى أنه سيمضي في السياسة التي انتهجها في الحكومة المنتهية ولايتها.  وهذا يعني أن المواقف الرسمية البريطانية من قضايا دولية من قبيل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لن تشهد تغييرا جوهريا.

فالمؤسسة الحاكمة في بريطانيا ظلت منذ عقود تردد مقولة إيجاد حل "عادل وشامل ودائم" لقضية الشرق الأوسط، وأن ذلك الحل لن يتحقق إلا عبر المفاوضات.

لكن بالرغم من هذا الموقف الفضفاض الذي لا يلزم إسرائيل بأي تنازلات فعلية ولا يهددها بأي إجراءات زجرية، فإن تصويت مجلس العموم العام الماضي على قرار غير ملزم، يعترف بحق الفلسطينيين في أن تكون لهم دولتهم الخاصة بهم، قد وجه رسالة قوية إلى الداخل والخارج، مفادها أن البرلمان الذي صوت قبل نحو قرن على قرار منح اليهود وطنا قوميا في أرض فلسطين التاريخية، هو نفسه يريد أن يعيد للفلسطينيين شيئا من حقهم الضائع.

يضاف إلى هذا، الحملة القوية التي شنتها منظمات المجتمع المدني وعدد من المؤسسات الإعلامية على إسرائيل إبان حرب غزة صيف عام 2014، ومطالبة الكثير منها بتقديم عدد من الزعماء الإسرائيليين إلى محكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية.

منذ تولى كاميرون رئاسة الحكومة في عام 2010، شهد حضور بلاده تراجعا ملموسا على صعيد التدخلات العسكرية في الخارج. فالبريطانيون مازالوا لم ينسوا الثمن الفادح الذي يدفعونه نتيجة لخوض رئيس الوزراء العمالي الأسبق، توني بلير حربين على بلدين مسلمين، أفغانستان والعراق. حيث قتل في الحربين مئات من الجنود البريطانيين، كما أصيب عدد آخر بجروح وإعاقات سيحملونها معهم على مدى حياتهم.

تظل المشاركة البريطانية ضمن حملة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الجوية ضد قوات العقيد الليبي الراحل معمر القذافي في عام 2011 أكبر مساهمة للندن في العمليات العسكرية بالخارج. ولا يأتي بعدها من حيث الأهمية سواء مشاركتها ضمن الحملة المستمرة على مواقع تنظيم الدولة في العراق وسوريا. لكن لا يتوقع أن تتعدى سياسات التدخل البريطاني هذا الشكل من المساهمة في "الحرب على الإرهاب".

ويبدو أن كاميرون استخلص الكثير من الدروس من حروب بلير الخارجية، وعليه فإنه سيركز أكثر على لملمة الوضع الاقتصادي والاجتماعي لشعبه، والتصدي لكل المحاولات التي ترمي إلى تغيير شكل خريطة وحدود المملكة المتحدة.