حين بدأ نجم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في السطوع في تسعينيات القرن الماضي، نظر العديد من قادة العالمين العربي والغربي بعين تطبعها الرهبة والانبهار بهذا السياسي المندفع، الذي يتحدث الإنجليزية بلكنة أهل البيت الأبيض والبنتاغون.

كما استقبلت شريحة واسعة من الإسرائيليين ابنها العائد من الجامعات الأميركية، حاملا وعودا وآمالا بالمزيد من الدعم الأميركي غير المسبوق لإسرائيل.

تلك الصورة تبدو حاليا جزءا من ماضي هذا الرجل. فنتانياهو الذي كان يرفض أي هدنة مع خصومه الداخليين والخارجيين، أصبح قابلا بتنفيذ بعض من شروط حركة حماس، التي ظل حتى وقت قريب جدا يصفها بشقيقة "الدولة الإسلامية" في أراضي قطاع غزة.

بالتأكيد، إن ما حمل نتانياهو على تليين مواقفه، ولو مؤقتا، هو ظهور معطى ميداني غير مسبوق.

إذا عدنا إلى آخر حرب كبرى شنتها إسرائيل على القطاع في أواخر عام 2008 وبداية 2009، فإننا نجد الإسرائيليين تحدوا كل النداءات الدولية بوقف الهجوم الذي استمر إلى حين اقتراب موعد أداء الرئيس الأميركي باراك أوباما اليمين في ولايته الرئاسية الأولى.

وفي تلك الحرب توغلت دبابات الميركافا والمدرعات الإسرائيلية في أراضي القطاع، وقسمته إلى ثلاثة قطاعات حربية، واستفردت بكل واحد فيها، منزلة أفدح الخسائر بمقاتلي حماس والفصائل الأخرى.

أما الحرب الأخيرة، الجرف الصامد، فلم تستطع لا الميركافا ولا العربات المدرعة أن تتخطى كثيرا الشريط الحدودي. والسبب هو التخطيط الميداني الذي فاجأ به المقاتلون الفلسطينيون عدوهم.

هذا المعطى أضيف إليه تمكن الفلسطينيين من مفاجأة الجيش الإسرائيلي من شبكات الأنفاق التي حفروها تحت أقدامهم.

ولنا في عملية معسكر ناحال عوز خير مثال، إذ لم يكتف المسلحون الفلسطينيون باقتحام معسكر للجيش من خلال نفق طويل، بل صوروا العملية، وحاولوا خطف جنود معهم.

وقد كان للحرب الإعلامية والنفسية التي شنتها الفصائل الفلسطينية أثر ملموس. إذ لم تكتف بالصور، بل وجهت للجمهور الإسرائيلي رسائل، وسجلت أناشيد قومية يهودية باللغة العبرية، كلها تهديد ووعيد.

في عام 2008، وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس صواريخ القسام بأنها مجرد مواسير لا أهمية لها. وفي هذه الحرب صار لصواريخ القسام مدى أبعد، يهدد تل أبيب والقدس.

وتقول مصادر إسرائيلية إن الأسابيع السبعة التي استغرقتها هذه الحرب، شهدت إطلاق نحو 4500 صاروخ وقذيفة من القطاع.

في صباح أحد الأيام، انتقلت مع فريق سكاي نيوز عربية إلى الحدود مع غزة، وما هي إلا دقائق حتى شرعت القذائف في الانفجار بالقرب منا. شخصيا أحصيت سبعا منها، وكادت واحدة منها أن تهبط علينا أثناء الاحتماء بجدار إسمنتي سميك.

لقد خلفت القذائف والصواريخ أثرا نفسيا عميقا لدى الملايين من سكان بئر السبع وعسقلان وأسدود والمستوطنات القريبة من قطاع غزة.

بل إن الكثير منهم يقول إنه ما لم يُنزع سلاح الفلسطينيين بالقطاع، فإنهم غير مستعدين للعودة إلى ديارهم، خوفا على أنفسهم وعلى أطفالهم.

نتانياهو لم يحقق لجمهوره هذا الوعد الذي قطعه على نفسه في بداية "الجرف الصامد"، وحركة حماس قالت وهي تعلن عن وقف الأعمال القتالية إنها "هي من قرر" أن يعود الإسرائيليون إلى مناطق غلاف غزة.

وهو كلام لم يتحداه نتانياهو، بل التزم الصمت، لأن أطفال الإسرائيليين على بعد أسبوع فقط من موعد بدء الموسم الدراسي الجديد، وغالبيتهم غير مستعدين للتضحية بتعليم أبنائهم مهما كان الثمن.

أما نتانياهو، فتنتظره جولات داخل حكومته، وأمام الناخبين خلال أشهر من الآن.