وصيّة هذا الحكيم، السنيور البروفيسور العلّامة، والموجع في علم الآثار، كانت، في الحرف، موجّهة إلى الأمّة التي استضافته، وسلخ نصف قرنٍ تقريباً في رحابها: الطوارق.

ولكن الوصيّة، المترجمة في نَصّ رسالةٍ، كانت موجّهة، في الدّرس، إلى كلّ الليبيين، بل وكل الإنسانيّة، لأنها لم تُكتب لتستعيد ذكريات زمنٍ ضائع، ولكن لتلقين الأجيال درساً، بل دروساً، في الحبّ أوّلاً، وفي وجوب التضحية في سبيل أداء الواجب ثانياً، وفي عمل ما بالوسع لتحريض إنسان هذا الزمان على الإحتكام إلى الطبيعة الأمّ، لاستنطاقها في شأن الحفريات الروحيّة، الأعظم قيمةً من اغتنام الحفريات المادية.

فالوصيّة كانت نداء وداعٍ مترجمٍ في رسالة حبّ، بل في أنشودة حبٍّ وجدانية، موجّهة من إنسانٍ قادته الأقدار في أحد أيام عام 1955م إلى الصحراء الليبية الكبرى، استجابةً لفضولٍ يستجدي جواباً عن سؤال الهويّة الآثارية، فإذا بها تجود عليه بمفاجآتها الوجودية، المتمثّلة في اكتشاف أقدم مومياء في تاريخ الكوكب، البالغة من العمر ما يزيد على السبعة آلاف عام، وهي مومياء موقع «موهجّاج»، الواقع في وادي تاشونَت، بمنطقة تادرارت، في رحاب آكوكاس، الشاهد الأسطوري على حضارات هذه القارة، التي لم نخطيء عندما خلعنا عليها وسام «مسقط رأس التكوين».

والواقع أن الرسالة، سواء في سواء حجمها، أو في سطوة حكمتها، هي مرثية في حقّ قيَم الغرب الإستعماري، الذي لم يكتفِ بتدمير القارات لإشباع شهوته إلى الثراء، ولكنه أبَى إلّا أن يدمّر في القارات ثرواتها البيئيّة، في حُمّى السطو على الثروات الطبيعية، ليكون جديراً بأن يغدو شهادة على صواب «شبنغلِر» في حجّته عن «غروب الغرب» في الذكرى المئوية لصدور هذا الكتاب المرجعيّ. ذلك أن علم الآثار الذي امتهنه «موري»، لم يكن مجرد حفريات في ساحة الجغرافيا، ولكنه حفرياتٌ في علم الإنسان، بل حفريات في علم روح هذا الإنسان، حرص، في ندائه الوداعي، الموجّه للملّة التي أحبّها وأحبّته، ورافقها العمر كلّه، لتكون شهادةً في معنى أن يطرح العمر  كلّه قرباناً لتحقيق حُلم، يقيناً منه بأن الإنسان ليس في الواقع سوى حلمٍ، وقيمته تتحقق بمدى قدرته على التضحية في سبيل هذا الحلم، ليكتشف لاحقاً أن سعادته إنما تكمن في هذه القيمة، الناجمة عن هذه التضحية.

وسيرة هذه المعالجة بدأت بمبادرة الأكاديمي الدكتور نور الدين محمود سعيد، الذي قام بترجمة نصّ الرسالة، بتحريضٍ من عرّاب الذاكرة الوطنية، صديقي القديم د. محمد طاهر الجراري، مؤسس ومدير مركز البحوث التاريخية الليبي، فراسلني الترجمان للإطّلاع على الكتاب، مع إمكان التقديم له، دون أن يعلم يقيناً بصلتي الحميمية، لا بمؤلّف الكتاب العلّامة موري وحده، ولكن لصِلاتي الروحية مع موضوع دراسات موري الأركيولوجية، لأن الصحراء معشوقتنا المشتركة، حيث سبق لي قراءة كتابه المبكّر عن «لوحات آكوكاس»، الصادر عن مركز البحوث نفسه منذ ثمانينيات القرن الماضي، في ترجمة المبدع الكبير فؤاد الكعبازي، إن لم تخذلني الذاكرة. ولم أكن لاكتفي بقراءة الكتاب، بل استخدمتُ لوحات فنّاني ما قبل التاريخ، المكتشفة في محيط تادرارت، لتتويج أعمالي الروائية، لتهبها شخصيّتها المميّزة لا كواقعٍ جغرافي، يتقاسم البيئة نفسها وحسب، ولكن لتأدية دورٍ آخر، إيحائيّ، شعريّ، يعزف على ذات الأوتار الميثولوجية، التي يعزف عليها عالم الحفريات الأثرية، لأن رأسمال كليهما هو منطق البُعد الضائع، منطق الزمن الضائع، منطق الفردوس الضائع، عملاً بناموس الأسطورة، التي لم توجد إلّا كشفرة غيبيّة تستجوب فينا الحَدَس، الٍأقوى حجّةً من كل ذخائر الحسّ، لأن الحَدَس ماردٌ نبويّ، لا يعترف بالقِدمة، لا يعترف بالنسيان، لا يعترف بما يُرَى، ولكن دينه هو ما يستطيع أن يخمّنه، ما يستطيع أن يستلهمه بشطحة الوجد، لاستخراج الغنيمة المنيعة من صلب الذاكرة المنسيّة. ورسالة عالِم الآثار لن تختلف في هذه الحمّى عن رسالة الروائي.

أمّا على المستوى الشخصي فقد التقيت بالعلّامة موري في أحد أيّام عام 1991م في سردلس، بعد أن ابتلعتها مستوطنة «تاهلا» الناشئة آنذاك، في إحدى حملات حجّي إلى قارّتي المفقودة الصحراء الكبرى، برفقة شقيقي الفقيد فنايت الكوني، الأكثر حرصاً منّي على الحجّ الموسميّ إلى فردوسنا المفقود هذا، أملاً منّا في الإستشفاء من أمراض الواقع الحضري، الذي عانى منه كل من أجبرته الدنيا على التخلّي عن حياة الحرية في الصحراء، ليُدمن عبودية المجتمع الحضري بديلاً. فالعلاقة مع مسقط الرأس، سيّما عندما يكون أرجوحة حرية كالصحراء، هي علاقةٌ مع الماضي. والعلاقة مع الماضي دوماً دراما من جنسٍ خاص، لأنه في منطق الوجدان فردوسٌ حتى لو لم يكن فردوساً، يكفي أنه ضائع. وضياع الماضي هو ما سيجعل استعادته أسطورةً، لأنه إرواءٌ لظمأ. إشباعٌ لحنين. ولذا اعتدنا أن نهرع لصحرائنا في كل فرصة لكي نتطهّر من دنس إدمان المقام في المكان، لنعود من هذا الحرَم في حرف بعثٍ من قيامة، وأحسب أن هذا هو ما أراد «موري» أن يعبّر عنه مراراً في شغفه المحموم في ارتياد معشوقته الصحراء، بإدمانه لها، في مقابل اشمئزازه من واقع الصفقة النفعيّة التي يحترفها محيط مجتمعه في الغرب.

ولكن موقفه النقدي من عقلية الغرب يذهب شوطاً أقسى من مجرد نقد، بل هو رفض. رفض إنسانٌ قوّمته الصحراء، وأعادت تشكيله، بحيث يتعامل مع الكائنات بروح الحالم، بروح الشاعر، بروح الفنّان التشكيلي، كما لقّنته تجربة العلاقة مع فنّاني ما قبل التاريخ. إنهم ملّة الموسوسين، الممسوسين بفتنة الوجود، فيتماهون بالأشياء بروحٍ حميميّة، تهفو لأن تكتشف في الأشياء أبعاداً ضائعة، يقيناً فطريّاً بأن الحقيقة ليست في ما استظهر، ولكن في ما استتر. إنها عقلية الكائن الطبيعي في اعتماد الرؤية الغيبيّة قياساً في استجلاء كل ما متّ لواقع الحسّ بصلة، فلا يملك إلّا أن يتغنّى بالجمال كمعبود. والسيد موري فارسٌ ينتمي إلى هذه الطينة، كما يبرهن في مرثيّة الوداع، وها هو يُسهب في الثناء على أهل المكان إعترافاً بصنوف الجُود، الذي أحاطوه به طوال عقودٍ من وجوده بينهم، لأنه لم يدرك كأوربّي أن ممارسة هذا الكرم هو تأديةٌ لواجب في عرف أهل الصحراء، لا في صحراء ليبيا وحدها، ولكنه فضيلة كل صحراء، سيّما العربية، التي اختلقت مصطلحاً عالمياً لهذا النوع من الجود، هو: «القِرَى»، لتتلقّفه الأجيال كتعويذة في العلاقة مع الأغراب بقطع النظر عن هويّاتهم، وهو ما ترجمه القدّيس بولس في وصيّته الخالدة: «استضيفوا الغرباء، فإنّ أناساً كثيرين استضافوا في الغرباء ملائكةً وهم لا يعلمون». وهو ما يعني أن الضيف ما هو إلّا رسولٌ ألوهيّ، ملاكٌ يتقمّص جرم إنسان، ومراسم الإحتفاء به دليلٌ على اصطفاء جدير بأن تفاخر به الأمة بقية الأمم. وها هو الحكيم موري ينضم لقوافل المهاجرين، الذين استجاروا بحرم الصحراء يوماً، فيعترف بأن كل حكمته، إنّما هي رصيدٌ مستعارٌ من تجربة حياته في رحاب أهل اللثام، الذين لم يتردّد في أن يفرد لهم أنشودةً أخرى، إلى جانب حزمة هذه الأناشيد، كالحبّ، كالزهد، الذي يختلق له وَصفاً مثيراً للفضول وهو: «الفقر النقيّ»، فحقّ لأهل تادرارت أن يحاججوا به الأمم، كمعلّمٍ أوّل في مدرسة الحريّة، بوصفه ترياقاً يُجير من ما يسمّيه «التدجين»، بوصفه الافيون الذي أمات الضمير في المجتمع الحضري، واستطاع أن يعمي حتى سدنة تنوير، نحسبهم عظماء، أمثال فولتير ونيوتن وبومارشيه، لينضمّوا إلى معزوفة الإعتراف بالرقّ كعمل مشروع!

لم ينسَ هذا المعلّم أن ينبّه، في وصيّته، أحبابه في معبد تادرارت إلى وجوب الحرص على مواقع الآثار في عهدتهم، لأنها الثروة الأعظم شأناً من كل كنوز عالمنا المفلس، وضرورة صونها من ألدّ أعداء الآثار في العالم وهم: السيّاح، الذين ينعتهم بآفة البلهاء في العبث بالتراث الإنساني بسبب تفاهتهم! وكم كان حكيماً في هذا التحذير، لأن الأغلبية تحسن الظنّ بالسيّاح لجهلها بجهلهم. فهم لا يُقبلون على الآثار فهماً لقيمتها، ولكن إشباعاً لترف الفضول لمداواة الملل. هذا في حين عانت مملكة الآثار في ليبيا كلها من هذه الفئة الضالّة، لتعاني أكثر من فئة أشرس عدواناً متمثّلةً في المصابين منهم بصرع الأيديولوجيا، التي ترى في أثر الآخر خطراً يتهدّد وجودها، حتّى لو كان الخصم المزعوم، في هويّة العرق، مجرّد أثرٍ لبصمة خلّفها إنسان زال منذ ألوف الأعوام! ففي إحدى زياراتي إلى موقع «متخندوش» في صحراء مساك سطفت، وجدتُ لوحة رائعة على صخرة هائلة، استثارت نقمة أحد السفلة، فلم يتردد في أن يجود عليها برشّة طلقات ناريّة من فوّهة بندقيته، ليعبّر عن كراهيّته لثقافة أسلافٍ لمجرّد انتمائهم إلى عرقٍ ليس عرقه! ونزيف ذلك الكاهن المزبور منذ عشرة آلاف عام على سطح الحجر هو ما ألهمني نزيف الراعي «أسوف» في رواية «نزيف الحجر»، ليكون نزيف الروح الأعظم شأناً من نزيف الدم، شفيعاً في التعبير عن تراجيديا وجود الإنسان في حضرة أخيه الإنسان، عندما يغترب بينهما الحب.

وهي الجريمة التي تكرّرت مراراً، زمن هيمنة وباء العماء الأيديولوجي في وطننا الشقيّ، علّ أشهرها قيام أحد أشقياء قبيلة الزنتان بتخريب موقع خرافي آخر في آكوكاس تادرارت في بدايات الألفيّة بتشويه اللوحات التاريخية بصنوف الطلاء، في عملٍ تحريضيّ رسميّ، ليبقى الجاني معصوماً من القصاص، برغم البيان الاحتجاجي الصادر عن النخبة الثقافية آنذاك، ممّا سيعني أن الخطر على مواقع حضارات الصحراء الكبرى رهين غياب الوعي بقيمة هذه الثروة الإنسانية الذي نتج عنه استهانة الحكومات المخوّلة بالقيام بدور الحارس لهذه الأخيرة، الأعظم شأناً من كل الذخائر الحرفيّة، المحروسة بالمفارز المدجّجة، ظنّاً من أولياء أمر الحكومات أنها الكنز الأنفس، ولا يدرون أنها غنائم بائدة، إذا ما قورنت بالقيم الروحية الخالدة.

ويبقى الدرس الذي يلقّنه فابريتسيو موري لأحبّائه الطوارق هو درسٌ موجّه للإنسانية، لأنه أنشودة في حقّ الحبّ، الذي أبدع فنون ما قبل التاريخ، ومعزوفة لحنٍ في تخليد الجمال، الذي شفع لشحنة الحبّ، كي تلعب دور البطولة، كسفير معتمد لدى بلاط الأجيال؛ هذا هو الإنسان البسيط، الذي التقيته في 1991 م  في رحاب بوّابة حرمه المقدّس، ليحدّثني عن معشوقتنا المشتركة، بعفوية المُريد، عن العمر التقريبي لحسنائنا، البالغ مائة ألف عام، نزفتها الصحراء بروح إنسانها المفتون بالجمال، باحثاً عن ملاذٍ يستودعه هذا الجنين، فلم يهرع لنجدته في ترجمة الرؤى سوى الحجر، الذي استوعب وسواسه الرساليّ، لخصاله كخصمٍ وحيد يستطيع أن ينازل النسيان، فيتحدّى الطبيعة، المهووسة بالمحو، برغم أنه هو أيضاً من الخلود لم يكن يوماً في يقين!