فماذا سيحدث فيما لو استنطقنا، في الخلاء، هذا الخواء؟

هل خواء الفلاة خواءٌ حقاً؟ أم أنه مجرّد حُجّة لإخفاء فحوى ما نسمّيه الخواء؟

فالصحراء، كأي واقع أرضيّ، مسكونة بذخيرة مّا، حتّى في حال أنكرنا وجود هذه الذخيرة. والدليل؟ الدليل هو وجود الهواء في خواء هذه الصحراء. والهواء بالذّات هو البرهان الأقوى على هيمنة الامتلاء في واقع الصحراء. فالهواء، في هذا الواقع، لا يكتفي بأن يستعير هويّة الركن في معادلة رابوع العناصر، ولكنه يجود بما يدلّل على الامتلاء، كما لا يدلّل على هذا أي عنصر آخر في صفقة حضورنا على هذه الفسحة اليابسة. فالهواء شحنة هائلة من أنفاس. أنفاسٌ تتنزّل من أعلى، وتهبّ من أركان أربعة، وتحيط بنا في الدائرة، وتغرقنا، بل وتخترقنا، لتتغلغل فينا، لتصير سرّاً يسري فينا، لتتحوّل طاقة تحيا فينا، كما نحيا بوجودنا فيها، حتّى إذا تباهت بالانتماء إلى ملّة صحراء، تفاقم فيها المفعول، لأن نقاء أجواء الصحراء، لقية، فيما إذا قورنت بأجواء العمران، التي تعاني من آفات التلوّث البيئيّ، ولذا فهي جوهر صريح إذا تعلّق الأمر بمفعول الطاقة اللازمة لإنتاج الكينونة.

فالصحراء مسكونة بأنفاس هذا الجوهر حتّى في حال سكون الأهوية، فكيف إذا شطح في الأجواء الهواء؟

نحن نسمّي شطح الأجواء ريحاً. والريح هي المعجزة الوحيدة من بين رابوع العناصر، استطاعت أن تستغني عن الجرم في البادية، أثناء قيامها بأداء رسالتها، لتكون، في هذا اللهو، قريناً لما اعتدنا أن نسمّيه: روحاً، كمجرّد تنويع وتر في معزوفة المفهوم، ليحقّ لنا أن نتساءل: "ما الريح؟ ما الروح؟ ما الهواء الحامل لكنز المجهول، الدافع لعجلة اللغز، المكوّن لكينونتنا؟" أليس هو صيغة أخرى للسؤال الخالد: "ما الحقيقة؟"، الموجّه من قبل الحكيم بيلاطوس للسيد المسيح، كصيغة أولى في سؤال هايدغر "ما هو الشيء؟"، لنضيف صيغة ثالثة للسؤال، المختزل لكل الأسئلة: "ما هو هذا الشيء الذي يحيي كل شيء، المسمّى هواءً، أو ريحاً، أو روحاً؟"..

ففي الصحراء فقط تبدو الفرصة أعظم في طغيان الخواء، ولكن الفرصة ستبدو مواتية أكثر في غزو مارد الهواء، الذي لا يعترف بوجود خواء، لأن رسالته أن يحقّق الامتلاء، أينما حلّ ما ننعته باسم الخواء، مما سيعني عدم وجود خواء في دنيا اليابسة ما وُجد في الواقع الأرضيّ هواء. الهواء بوصفه تميمة لمداواة لا الأسقام البدنية، أو حتّى الروحية، وحدها، ولكن لعلاج المنيّة أيضاً، بدليل أننا نستطيع أن نستغني عن الطعوم والمشروب وكل شيء، أمداً قد يطول وقد يقصر، ولكن هيهات أن نستطيع التوقّف عن استنشاق الهواء مهلةً تستغرق من عمر الزمن الدقيقة الواحدة. لهذا السبب صار استحضار الأهوية الأنقى ضرباً من طقس ديني في ثقافات العالم منذ الأزل. كم هاجرتُ شخصياً في طلب نقاوة الهواء، للاستشفاء من أسقام تجربة بولندا المميتة؟ لقد تطاولتُ في جبال "كاربات" في بولونيا نفسها، بحثاً عن ترياق لا يتحقّق بدون وجود عنصر النقاء في هذه اللقية، المدعوّة هواءً. ولكن جبال "كاربات" كانت ملاذاً أقل مفعولاً بسبب انحطاط القامة في مستوى الأجبال، فكان من الطبيعي أن أستجير بجبال القوقاز في ثمانينات القرن الفاني، لأمثل هناك في حضرة "معبد الهواء" في قمّة تواجه "البتروس" الذائع الصيت، المتوّج بالجليد في كل الفصول، لأهنأ بمتعة المقام في الفردوس، الذي شيّده القياصرة يوماً للاستجمام باستنشاق النقاء في أهوية مشفوعة بروح السموّ، لأن الانقطاع في فضاءٍ يهيمن عليه نقاء الهواء، هو شَرَك لاقتناص السكينة، التي صارت في دوّامة الباطل الدنيوي عنقاء مغرب.

ليس لي إلّا أن أعترف كم شخصي مدينٌ لتلك التجربة التي كان لها الفضل في استعادة علاقتي بالطبيعة المغتربة في دنياي، وحفّزتني كي أسعى في طلبها ما أن ألقت بي الأقدار في الألب السويسري، حيث لم أقنع بالمقام في "هونيباخ"، المشرف على بحيرة "تون"، لأستبدله بالصعود إلى أعلى، لأحلّ ضيفاً على معبد آخر، لاصطياد طريدة هي النقاء، هو معبد "غولديفيل" للهواء الطلق، على ارتفاع الألف متر فوق سطح البحيرة، الهاجعة في أحضان جبال الألب السويسري الأسطوري، لأتفرّغ هناك لمداواة نزيفي، لأكتشف كم النقاء، في غنيمة كالهواء، درسٌ ديني، لأننا، عندما ننقطع، ونعتزل دنيا الأنام، لتسليم زمام أمرنا لأمّنا المنسيّة (الطبيعة)، لا نكتفي بعلاج علل الأبدان، ولكننا نداوي أمراض الروح، التي لعبت فيها دوّامة باطل دنيانا دور البطولة، فلا يعود النقاء، الذي نفتّش عنه غنيمةً حرفيّة، ولكنه يستعير بُعْد القيمة الروحية، التي لا تكتسب منزلة الحياة أو الموت إلّا لأنها الرهان الأخير على اغتنام ما كان في كل الأزمنة أحجية الأحاجي وهو: السعادة!

وحجر الحكمة في تحقيق هذا الحلُم هو ذلك السموّ، المشحون بجنين النقاء، النقاء في بُعْده الصريح، الذي لا يتنزّل تنزيلاً بدون شفيع غيبيّ هو: الهواء!

ففي البرزخ، المعلّق بين السماء والأرض، كما جبال الألب، يهيمن المعبود الخالد، الذي كان له الفضل في تقويم سورة التكوين، باستزراع الأجنّة في بطون الكائنات، لينبثق من المجهول لغزٌ اسمه الإنسان، مردّداً معزوفة حضوره في طقس الشهيق والزفير، ليتزوّد بزادٍٍ منيع هو الامتلاء، مبدّداً داءً، هو: الخواء! ولهذا السبب يتنادى الهواء، باعتناق دين الامتلاء، ليبدّد شبح بعبع هو الخواء، حيثما تمادى الأخير، ليتباهى بحضوره كطاغية، كما في واقع الصحراء. والإحساس بالسعادة رهين الوعي، أو بالأصحّ، الوحي الخفيّ، باستعادة الانتماء المفقود إلى الوطن، الوطن المنسيّ، الذي يروقنا أن ننعته بالفردوس المفقود، في علاقة حميمية، لا تتحقق بدون تدخّل عرّاب هو، بالحسّ، امتلاء، ولكنه، بالحدَس، نقاوة في الهواء!

فالسعادة، كما الحكمة، بنت بيتها، لها أعمدةٌ سبعة، محمولة على مطية معراج، لا يبلغ منزلة السموّ، ما لم يتحرّر من دنس الأسافل، تحرُّر الحجيج من سَمّ الخياط.