في سفر الخروج يأمر الله فرعون مصر قائلاً: "أطلق شعبي ليعبدني في البريّة"، ولكن الأمّة العبرانيّة لم تستجر بصحراء سيناء لتعبد الله في البرية، ولكنها طلبت هناك أرض الميعاد، لتكون لها وطناً مستعاداً، بدل الوطن المفقود، بل لتكون لها فردوساً مستعاداً، بدل الفردوس المفقود.

وما التّيه الأسطوري في صحراء سيناء سوى القصاص عن التجديف في حقّ الوصيّة الربوبية، الناجم عن سوء فهم في حقّ الوصيّة. فالنّص صريح، يقضي بوجوب عبادة الله في البريّة. وهو ما يعني أن الخروج إلى الصحراء، بالإفلات من قبضة الفرعون الفولاذيّة، خلاصٌ ثمنه إدمان الصلاة في رحاب المعبد الوحيد الجدير بممارسة طقس الصلاة، وهو البرية. لأن البريّة تجود بالهجرة، والهجرة تجود بالحرية، والحرية هي الملاذ الأخير، القادر على أن يكون بديلاً للفردوس المفقود، ولا أمل في تحقيق أي أرض ميعاد، أو حلم استعادة الفردوس الضائع، إلّا بالحرية، التي يضمنها إدمان الصلاة في البريّة، لأن الصلاة ليست ترجماناً للتوبة عن الخطيئة الأولى، ولكنها حملة تحرير للنفس، لتطهير آثام النفس، لغاية تغيير ما بالنفس، لدفع مكوس مستوعبة بحرف المعصية الأولى، وهو ما لا يتحقق بدون الحضور في الواقع الوحيد المقدّس وهو الطبيعة، المعبّر عنها في وصايا السفر بـ"البريّة"، لأنها وحدها الوطن الذي اصطفاه الربّ ليكون للنبوّة مسقط رأس. ولم تكن تجربة الخروج إلى صحراء سيناء لتتحوّل تيهاً أسطورياً، فيما لو اعتمدت حكم الوصيّة الحكيمة، الواردة في حرف الصلاة في محرابٍ اسمه: الصحراء، باعتناق دين الحرية، المكفول بموجب العهد الضمني، المبرم مع الربّ، ليكون عودةً إلى فردوسٍ مفقود، لا في بُعده الغيبيّ، ولكن في بُعده الحرفي، كصحراء "أور"، التي خرج منها السلف إبراهيم يوماً، بحيث لا تغدو "أرض الميعاد" الموعودة وتد عبوديةٍ آخر، بديل لوجود الأسر العمرانيّ في وطن الفرعون، لينقلب التحرير من الأسر إلى استبدال سجنٍ بسجن، من الطبيعي أن يتوّج لا بتيهٍ فحسب، ولكن بتجديفٍ انتهى بعبادة العجل الذهبي!

تُقترف هذه الخطيئة بعد اغترابٍ وجيع في عالم العمران، ليس لأنه فرعونيّ، أي أنه وثنيّ، بمنطق التوحيد الإبراهيمي، ولكن، في الأساس، لأنه عمرانيّ. الهوية العمرانية، أو الحضرية، هو ما يهبه روح الاغتراب، لأن العبرانيين، بحقيقتهم كقبيلة راحلة، هي قبيلة مصطفاة، مختارة، ألوهيّة، حسب تصنيف القديس أوغسطين، إذا ما قورنت قرينتها الأرضية، الموصوفة في منطق أوغسطين، بـ"الدنيوية"، أي أن النزال التراجيدي بين القطبين هو التنصّل من الدنس، المتمثّل في ارتضاء الاستقرار ديناً، كما تعتنقه الفئة الحضرية، باعتماد واقع منزّه في رحلة الكينونة عن كل الممارسات الآثمة، المعتمدة في معجم الأخيرة، بدايةً بتنصيب معبود فانٍ، نسمّيه وثناً، بديلاً للمعبود الخالد، الذي نسمّيه ربّ أرباب، ونهايةً بامتلاك أرض، هي غلّ، مروراً باحتراف صفقة مريبة هي التجارة، المدعوّة في السومرية بنعتٍ شنيع هو "تامكارّا"، الدالّة على اللصوصية، ليصير الاستسلام لإغواء المقام في المكان، رأس الآثام، في ناموس الربّ. فالطواف الأسطوري في صحراء سيناء لم يكن ليكون ضياعاً لو كان استجابةً لنداء "عبادة الله في البريّة"، كما يرد في سفر الخروج، ولكنه بحث محموم عن "أرض الميعاد"، التي لا وجود لها في أي وعد، ولكنها حلم رومانسي، شطحة وجدانية من وحي روحٍ مجبولةٍ بالشعر، هي خصلة في طبيعة هذا الشعب، طمعاً في الاحتيال على حكم المنفى، القاضي بالخروج من الفردوس، لتكون أرض الميعاد بديلاً يعوّض الحرمان من وطن الألوهة، ليستحقّ الشعب نعت "صلب الرقبة"، الدالّ على العناد، الذي يتردّد في جلّ أسفار العهد القديم، حتى كاد يتحوّل هويّةً في حقّ هذه الملّة الشقيّة، ولكن ضلالها هو ما كان يشفع لها خطاياها، تيمّناً بناموس "الابن الضالّ"، الذي حوّلته تجربة "الشاة المائة" نموذجاً استعار حجّة قداسة، في مفهوم الربوبية، لأن الاغتراب عن القطيع حقّق له حصانة من كل قصاص. فالطواف في صحراء اللاحدود ما هو إلّا صلاة في بلاط المعبد اللامحدود، وإدمان هذا الطواف، المعبّر عنه في المعاجم، باسمٍ جليل هو "الهجرة"، هو الغاية من الخروج، بحيث يغدو البحث عن أرض موعودة باسم "ميعاد"، تجديف صريح في حقّ الأمر الإلهيّ الداعي لعبادة الله في البريّة، لأن الصحراء منذ الآن هي الوطن، هي أرض الميعاد، هي الفردوس المستعاد، هي الحرم. والاستهانة بالوصيّة، باختلاق قبلة أخرى، ضلالٌ ليس بلا ثمن، والدليل؟ الدليل جادت به تجربة المرحلة التالية، عندما كفّ القوم عن الطواف في واقع الحرم، ليسلّموا زمام أمرهم لإغواء المكان من جديد، طمعاً في أن يكون لهم ملاذاً يعفيهم من وزر الطواف. ولكن هيهات!

إنه الخيار الذي لا نضمن ألّا يكون خيانةً للعهد، وإخلالٌ بالميثاق، الذي كان حجر الحكمة في تحقيق الخلاص من أغلال الفرعون، والخروج للصلاة في بريّة الحرية. فما الحاجة لبناء الهيكل في أرض السلام (أورشليم)، بعد أن كان محمولاً في التابوت على الأعناق زمن الطواف الباسل في بريّة الإله؟

اليقين أن الطواف قطعٌ لأنفاس، سيّما عندما يكون أفيون حياة، لأن للشيخوخة أحكاماً تستوجب التضحية بكل ما بلغ من العمر عتيّاً، وإلّا لما اضطرّ أهل الصحراء الكبرى لأن يطرحوا أشياخهم في طوق الحجارة، ليستصدروا في حقّهم الحكم الفجيع القائل: "لستَ صغيراً حتّى تكبر، لست مريضاً حتّى تبرأ"، ليتركوهم في مواجهة قدرهم، لأنهم لن يطمعوا في أن يحققوا خلوداً مهما اعتنقوا الهجرة ديناً، لأن الحرية الدنيا، ليست ضماناً يجير من قانون الحرية القصوى! والموت ليس بعبعاً فقط في مفهوم الإنسان الذي قتل في نفسه إنساناً، ليُحيي إنساناً آخر، ليحقق بذلك معجزة الحضور في البُعد المفقود، بإخلاصه لمناسك مفروضة بحرف الرحيل. ذلك أن الخيار لتوطيد أوتاد الجذور، ممارسة لردّةٍ لن يشفع في كفّارتها بناء الهيكل في المستوطن المستحدث، ولو لم يكن الأمر كذلك لما حاقت اللعنة بالمقام، فيُقبل "نبوخذ نصر" حاملاً على ألسنة الرماح قصاص الأسر البابلي، لتبدأ فصول ملحمة أخرى هي الدياسبورا، التي طوّحت بالقوم، ليحيوا المنفى الأسطوري، الذي استمرّ منذ ما قبل التاريخ، ليتواصل إلى اليوم.

المنفى الأبدي ثمن التجديف في حقّ حرَمٍ هو البريّة، لأن الحرية التي يكفلها إدمان الرحيل، هي أرض الميعاد!

فأن يسكن الإنسان إلى جدار، أو أن يلفظ أنفاس النزع الأخير، لا فرق، مادامت كلمة "بات"، تعني في معجم التكوين "مات"!