رسالة السيل، منذ الأزل، تتغنّى بنداءٍ خالد، مشفوع بناموس الطبيعة الصحراوية المأساوية في عطاياها، كما في ضحاياها، تقول: "لا وجود لخلاصٍ بلا قصاص"، لأن هطول الغيوث المأمولة في واقع الجدب، رهين قبول الجود بالقرابين، التي تأبَى السيول إلّا أن تحصدها في حلولها، فتجرف الأنعام في قيعان الوديان.

وقد تستغفل المستهترين بالأعراف السائدة، المطمئنّين في الأسافل لقضاء ليلتهم، ناسين أن الصحراء لا تتساهل في حقّ قوانينها، ولا تغتفر الآثام المقترفة في واقعٍ هي فيه سلطان، لنكون، في طفولتنا شهود عيان على أناسٍ تخطّفَهم المارد، وأغيار يصارعون الموج ببسالة، متشبّثين بأعراف أشجار الرّتم الهزيلة، الشبيهة بخصلات شعور النساء، فتصمد شجرة إلى حين، وتخذل أخرى في الحين، لتتواصل فصول الدراما في فريقٍ ثالث يصارع ببسالة، فيستجير بأعواد الحطب، التي لا تصمد طويلاً، فينقضّ عليها المارد لينتزعها من أصولها، ليسحب الملاذ من كفّ المريد الباسل، ليلتقمه أيضاً، فيتقاذفه مسافةً كفيلة بأن تستودعه رحاب الأبدية، لولا روح البطولة، التي تدفع بالفارس للإستمرار في المقاومة، حتّى بعد فقدان التوازن، والإستسلام للسان الشرس، للسان الشره، مع الإحتفاظ برصيدٍ ولو زهيدٍ من أنفاس، تشفع للضحية أن تصمد لحظة، كافية لانتهاب عُرف شجيرة أخرى، قد تخذل أيضاً، ولكن التسلّح بآخر رمق، يحقّق شهقةً في النزال، كفيلة بأن تعيد البطل إلى صوابه خطفاً، لأن التجربة كلها رهينة القدرة على تحويل الخطفة إلى فرصة، لالتقاط نفَس، فالأهم من كل شيء هو الحرص على الأنفاس لأن ببطلانها يبطل البطل، يبطل كل شيء، كالوهن في الساعدين، وتضعضع الساقين، وهيمنة الخواء في كامل البدن، والإحتفاظ بنفحة هواء في الرئتين يمكن أن تحقق منعطفاً في النزال مع شبح المنيّة، المحمول في لسان السيل.

اعتاد الآباء أن يجلونا مع الأمهات إلى السفوح منذ أبصر أحدهم برقاً اشتعل خطفاً في أبعد أفق، فرفع عقيرته بالإنذار. إنذارٌ استوجب الجلاء، لا عن القيعان وحسب، ولكن عن السفوح التي يمكن أن يدركها مستوى الماء أيضاً. ينتشلنا الآباء من نومة هزيع منتصف الليل، لنسعى ونحن نعاند في عيوننا النوم، نمتثل للنداء ونحن نيام، ولا ندري كم استغرق نعاسنا المبلبل عندما نستيقظ على الجلبة، على القيامة التي تبشّر بحلول الضيف، الذي انتظرته القبائل طويلاً طويلاً. وها هو يُقبل بما يليق بكل مارد، بكل بعبع، جارفاً في طريقه كل شيء، أقول في طريقه، لأن السيل حكيمٌ، وفيٌّ للعهد الذي أبرمه مع نفسه، قبل أن يبرمه مع القبائل، فيسلك الطريق نفسه، الذي احتفره لنفسه، احتفره بلسانه يوماً، وعاهد الطبيعة ألّا يعتدي على مُريدٍ لم يعترض طريقه.

في غيهب السحر تشهد القبائل وصول الضيف، حاملاً في أعطافه الخلاص بيدٍ، ملوّحاً بالقصاص في كفّه الأخرى، فتسود في المرتفعات البلبلة: بكاء الأطفال الذين انتُشِلوا من نومهم غصباً، نداءات الرعيان، الذين يتولّون أمر الأنعام، ثغاء الجداء، ورغاء الإبل، وهمهمات الرجال، ومجادلات الفرسان، وكلٌ من هؤلاء يهدهد في الوجدان إحساساً مزدوجاً: فالخطر أقبل، وعلينا أن نستقبله بأقل خسائر، إذا شئنا أن ننعم بالربيع، أن ننعم بوجود السلسبيل الذي له المقدرة وحده بأن يُحيي في الصحراء العظام وهي رميم!

إنه الغزو الذي علينا أن نحتمل نزيفه، لأننا أفلحنا، ولم نخسر في المعركة، أنفسنا، لم نخسر وجودنا، فهذا وحده غلبَة، لأن الربيع فردوسٌ في انتظارنا.

ولكن.. ولكن ليس قبل أن يطمئن القوم على سلامة الجميع، حتّى إذا فوجئنا بوجود روحٍ تائهة، أدركها الكابوس قبل أن تدرك السفوح، فهذا سبب كافٍٍ للإستنفار. استنفارٌ يشارك فيه كل من استطاع لذلك سبيلاً. وها هم الأشدّاء يهرعون إلى الأسافل ما أن ينجلي قبس السحَر لتتّضح الرؤية. يتشاورون في عمل ما من شأنه أن يجدي في إنقاذ الإنسان الضائع، الذي يصارع، مواجهاً مصيره لوحده. يهرع الفرسان ليأتوا بالحبال، ولكن الحبال تبقى عاجزة عن الوصول للبطل الذي يصارع الطوفان. يصيح الفرسان لرفع معنوياته بنداءات حافلة بالوصايا، ولكن نداءات الفرسان تضيع في ضجيج المياه الجنونيّة. يحوم الفرسان حول الشاطيء لاختبار مستوى ارتفاع المياه، ولكن المياه ليست في تراجع، ولكنها كثيراً ما تزداد في الارتفاع، فيتراجعون وهم يتعثّرون في حبالهم الرهيبة، المفتولة من ليف النخيل، المستخدمة في الإطاحة بأكثر الجمال وحشيّةً في موسم قرع النوق. ولكنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أبداً، بل يهرولون على امتداد الشاطيء، في محاولات مكرورة، ليتبيّن شبح النزيل الشقيّ، الذي ينازل الطوفان ببسالة، كأنّ في نجاته تتوقّف نجاة القبيلة، والقبائل، بل ونجاة السلالة البشرية في كل الكون، يخوض في غمرٍ مغمور بالطين، بالسحالي، بالفئران، بالعقارب، بالأفاعي، بالخنافس، ولكن كل هذه المخلوقات تطفو مستسلمةً لقدرها، فاقدةً قدرتها على إلحاق الأذى، كأنّ البليّة جاءت لكي تصالح الكائنات بعضها ببعض، لأن بوجود البلاء، يبطل مفعول العداء!

ولكن الفرسان الذين جرّبوا خوض الحروب كثيراً لا ييأسون أبداً. وهاهم يتشاورون، ثم يصيحون بالوصايا، فلا يكتفون، يجرجرون حبالهم، ويهرولون على طول امتداد الشاطيء في محاولات باسلة لتبيّنُ شبح الضحيّة، ليرافقوه في رحلته الهمجيّة في انطلاقها نحو المجهول، محاولين ألّا يغيب عن بصرهم. ولكن هذا لا يشفي غليلهم، ليقينهم بأن الرهان على انخفاض مستوى الماء في القاع وَهْمٌ، فلا يجدوا ما يشدّ أزر الرجل سوى الوصايا، ليس الوصايا التشجيعية وحدها، ولكن أولئك الذين خبروا الصحراء شبراً شبراً عليمون بوضع الكائنات في الوادي، فيرتفع نداء في مسافة مّا: «في المنعطف توجد شجرة سدر، إذا اعترضت طريقك فهي ملاذُك!»، أو ينادي آخر: «بعد المنعطف خندق المغارة، تشبّث بنتوء الغار!»، أو يهتف ثالث: «احترس الموقع المحاصر بين جبلين، ففي الحضيض حفرة عميقة!».

وتستمر الحملة، المرافقة لرحلة البطل نحو المجهول، إلى أن ينجلي الغيهب، وتميط الصحراء عن وجهها، تماماً كما يميط رجال القوم اللثام عن وجوههم، ليستعير رجال الإنقاذ تقنية أخرى. يستعينون بالحبال في الدخول إلى الغمر. يتعاقبون في الغمر في طابور، يترنّحون، يقعون، يقفون، ولكنهم لا ييأسون. يستميتون في الوصول إلى العمق، ولكن هذه المغامرة تستغرق النهار كلّه، في وقتٍ كان فيه البطل يعاند أنفاس النزع الأخير، ولكن استغلال النفحة، الإكتفاء باختطاف النفحة، ضمن له الرمق، ضمن آخر رمق، عندما تزامن مع يأس الماء في القيعان، ليتمكّن أحد الفرسان من وضع الحبل حول صدره، ليبدأ مخاض الكرّ والفرّ، الذي انتهى به إلى الشاطيء، ليلفظ نفحة الرمق الأخير في التقاط نفَس الخلاص!


على السفوح انطلقت عاصفة من الزغاريد، احتفاءً بالحدث، احتفاءً بالغلبة، لأن مخلوقاً اصطفته الربوبية ليكون لها في الأرض خليفةً، نجا من الموت غرقاً!