(إلى روح شهداء قيامة درنة)

الماء هو العنصر الأكثر هوساً بالحرية، من بين كل  العناصر الأربعة، ويبدو أن هذه الفضيلة هي السبب الذي نصّبه العنصر الأقوى سطوةً، والأصوب حجّةً، ليستحيل حبسه في قمقم، سيّما عندما يتآلف ويستوي في ما نسمّيه سيلاً، كما برهنت تجربة الصحراء، التي كان لها الفضل في تزكية هذا الإسم؛ لأن السيل في واقع العمران ينتحل هوية أخرى، ذات قوانين أخرى، هي: النهر! لأن النهر، في مسلكه، ديمومي، ولكن السيل رهين الكمّ الفائض عن الحدّ من غيوث موسميّة، ليتجمّع، مستعيراً حجمه من مسارب المرتفعات، فيتدفّق ما أن يضيق به المكان، ليتحوّل، في منطقنا، سيلاً، ولهذا السبب هو: وقتيّ! وهذه النزعة الوقتيّة هي ما يخذلنا، لأننا نترجمها، بوحيٍ من خمولنا، إلى مفردة أخرى، هي: أبديّ، فنعامل الوديان، المحفورة بمحاريث السيل عبر الأزمنة، ونستبيحها كمشاع، لنا الحقّ في استغلاله كأرض فراغ، نستزرعها، بل ونتّخذها مقاماً أحياناً، لمجرّد أن الجدب هيمن لأعوام، ثمّ نستنكر أن نشهد فجأة هجمة المارد، العائد من منافيه، في فيضٍ هو سيل، ما لم يجتز عتبة الحدّ، ليتحوّل فيضاناً، فإن تمادى واستقام في ما هو أعظم سلطاناً، فهو، في المفهوم، طوفان، ليحقّق، بهذه الصفة، ماهية أسطورية، ورثناها، في كل المتون المقدّسة، كقصاص يستعير هويّة عدميّة هي: القيامة! هذا هو الرسول الغيبيّ، الذي اعتدنا أن نرتكب الحماقات، فنذهب بنيّة ترويضه، لنقيم في طريقه السدود كعقبة تمنع تماهيه في البحور، بوصفها المستودع، المكلّف باختزان مياه الكوكب في الأرض، وأهل الصحاري وحدهم الأعلم من كل الأمم بما يمكن أن تعنيه محاولة قمع مشيئة السيل، بوضع السدود في طريقه، بقصد اختزان المياه، لاستغلالها في مآرب شتّى، لم يكن السيل معنيّاً بها يوماً، ولهذا السبب يهلك أهل الصحراء عطشاً، ولكنّهم لا يقتحمون على الأرض حرمتها، ليغيّروا من وضع ما اختطّته الصحراء في دساتيرها، ليقينهم بأن أي تدخّل في شئون الطبيعة، ليس إثماً في حقّ الصحراء وحدها، ولكنه تجديفٌ منكر في حقّ قانون الكون كلّه، وهو اليقين الذي عرف طريقه إلى أخلاقيات الإنسان الصحراوي، الذي لا يجرؤ على تعديل أي شيء في واقع اليابسة، ولكنه يجود بالتضحيات لكي يجاري ما تفرضه الطبيعة، التي اصطفته لتجعل له من بدنها بيتاً. وأوّل حرف في أبجدية هذا الناموس هو الحرص على عبور الوديان، التي لم تكن يوماً سوى بيوت جناب السيل، التي تخلّى عنها لا يهجرها، ولكن لكي يعود إليها عندما يحين الميعاد، أي تحريم المبيت في المجرى، في قاع الوادي، المسكون بروحٍ مارد مردَةٍ إسمه السيل، الذي لا يعلم أحد متى يروقه أن يغزو، والتجربة برهنت دوماً أنه خذل دوماً كل مَن آمنه، واقترف خطيئة المبيت في معبره، وكم مرة استيقظنا، عندما كنّا أطفالاً، على هدير المياه المتدافعة في قاع الوادي، لتجرف الأنعام ليلاً، فيدهشنا أن نشهد فيضاناً بهذه السطوة، دون أن نسمع هدير رعود، ولم نرَ سحباً ولا بروقاً، لنحيا واقع حلم، قبل أن يعلّمنا الآباء أن الصحراء أيضاً فاتنة لعوب، يروقها أن تجود على مُريديها بالمفاجآت، فتستنزل غيوثها في أبعد أرض، على قمم جبل نفوسة الأسطوري، في ليلةٍ ظلماء، لتُهدي لمراعينا الظامئة، نصيباً سخيّاً من خزنة كنوزها النفيسة، مكافأةً لنا على صبرنا على الجدب آماداً قد تستغرق في بعض الأحيان أجيالاً. من تجربة الطفولة أيضاً استعرنا الدرس القاضي بوجوب العبور، عبور الوديان تحديداً، عرضاً، أي في لغة القوم قطعاً، لا امتداداً، لا طولاً، إلى حدٍّ صارت فيه هذه النزعة مثالاً فاضلاً يرثه الخلف عن السلف، لنجده مازال حقيقة ساطعة في لغة القوم، لنرثه في مدلول أسماء بعض القبائل الكبرى في صحرائي الكبرى، مثل «آزجر»، التي كانت سلطنةً إلى وقتٍ قريب، أو «آهجّار»، التي كانت سلطنة أيضاً لسطوتها التاريخية، وهي مفاهيم تدل على نزعة هذا القطع للوديان عرضاً، لتحمل مدلولاً آخر يتغنّى بروح الزهد الكامنة في طبيعة القوم الأخلاقية، ولو قمنا بتشخيص هذين الإسمين لاكتشفنا أن المعنى مستعارٌ من مفهوم العبور: العبور لا باقتفاء أثر المجرى، المحفور في قاع الوادي، ولكن العبور بصفته كتمرّد، على تتبّع إلتوآت الوادي، ولكن العبور الأنبل، العبور الأفضل، العبور الأنزه، العبور الذي يليق بالفرسان، وهو العبور قطعاً، العبور عرضاً، أي التخلّي عن الطريق الممهّد، الآمن، الجدير بأن يعوّل عليه، فاعتاد أن يغدو مصيدة المستضعفين، أو شرك الفئة التي يروقها أن تتغنّى بوصيّة: «هكذا وجدنا آبائنا يفعلون!»، ليقترفوا، بهذه العقلية، الآثام في حقّ أنفسهم، وفي حقّ الأرض التي هدهدتهم، ودرّبتهم على العبور عرضاً بتسلّق السفوح لاستنشاق أهوية الأعالي، فخذلوها عندما استكانوا، عندما استسلموا لإغواء المجرى، فلم يضمنوا غدر السيل، الذي باغتهم دوماً، فلا يكتفي بانتهاب الأنعام قرباناً هذه المرّة، ولكنه يأبَى إلّا أن ينتهبهم هم أنفسهم، ليتحوّلوا هم القربان!

فإذا كانت معاملة قاع الوادي كحَرم، كمعبد، كمحراب صلاة، عبوره تدنيسٌ لحرمة روح إمام المردة، المدعو سيلاً، فكيف بإعلان الحرب على السّيل، بإقامة سدود في وجه هذا الضيف، الذي إذا كان يتحلّى بخيال الضيف، فإنه لا يعدم خصال الطّيف، المقبل على واقعنا، من رحاب الملكوت، كرسولٍ يحمل لنا في أعطافه فرمان الخلاص؟