(في الذكرى السنوية الأولى لرحيل خلّ الزمن الضائع أبي زيد عمر دوردة)

"تشبّث بأداء الواجب بغضّ النظر عن النتائج، سواء أدّى أداء الواجب إلى سعادة أو أدّى إلى شقاء!"

(نَصّ هندي قديم)

*****

"اسعوا دائماً لأداء الواجب، وكونوا على يقين أن الإنسانية سوف تغفر لكم، حتّى في حال أخفقتم"

(جفرسون)

*****
مأساة الأجيال في أنّها لا تكتشف إلّا بعد فوات الأوان، أن قيمة الذخيرة التي جاد بها أسلاف تعاطوا الزهد أفيوناً، هي أنفس بما لا يقاس من قيمة الذخائر التي جاد بها أسلاف اعتنقوا الترف في حياتهم ديناً؛ لأن الترف ثروة حرف، وثروة الحرف الذي يُميت زائلة، أمّا ثروات الزهد فثمرة الروح التي تُحيي، ولذا فهي أبديّة.

فالترّف لا يتردّد في أن يخذلنا، ولكن الزهد في حطام الدنيا هو ما يسعدنا، لتنقلب القيم الزهدية في صفقة وجودنا رأسمال الحقّ، لأنها رهان حريّة، في حين تتحوّل الثروات الدنيوية، التي نتلقّاها على سبيل الإرث من السلف، لعنةً، بسبب طبيعتها كفاكهة ملكيّة!

فثروات الروح، في تجربة أي جيل، مدرسة تربّي. مدرسة تروّض. مدرسة تحرّض على التحلّي بروح الطينة، التي لفّقت قيم الأسلاف الأخلاقية، كالزهد في الغنيمة الفانية، أو القبول بالنّزاهة عملة تعامل، أو اعتناق الشجاعة ديناً في كل ما متّ بصلة لنوائب الدهر، ثمّ الاحتكام إلى ساحة العدالة الإلهيّة، كلّما حاول الواقع أن يفرض في حقّ الأنام صنوف الجور، وهو الذي لم يعترف، بطبيعته الأرضية، بغير قوانين الجور.

هذه هي الأحكام التي استعارها نموذج في مقام أبي زيد عمر دورة من أسلافه في البريّة، قبل أن يُقبل بها إلى حضيض عالم العمران، لكي يعلّم أبناء الجيل ألف باء المعارف في رحاب الحاضرة طرابلس.

احترف أبو زيد مهنة مقدّسة في تلك الأعوام، المبكّرة من زمن ما بعد الاستقلال، وهي التدريس، بعد أن حكمت القوى الاستعمارية الآثمة على الأمّة الآمنة بالجهل على مدى قرون كاملة، ولم يُطلّ قبس الخلاص في أفق الواقع الشقيّ، إلّا بعد اليقظة الخجولة، التي رافقت ما رآه الناس بعثاً من عدم وهو: الاستقلال.

ولكن أبا زيد هو النموذج الذي لم يكن ليكتفي بتلقين الجيل حرف المناهج المدرسية، ولكنه أبَى إلّا أن يقتسم مع أبناء الجيل حكمة أسلافه البريّة، ورؤيتهم الأخلاقية والفلسفيّة في حقّ هذا الوجود، ممّا دفعه لأن يحرص على تلقين الجيل منهجاً آخر، إلى جانب منهج وزارات التعليم، وهو المنهج الأكثر استعصاءً من كل المناهج التربوية والتعليمية، لأنه ليس منهجاً مدوّناً، يمكن أن نرثه حرفاً، ولكنه نهجٌ وليس منهجاً، وأن يكون نهجاً يعني أنه طريقة، إذا أبحنا لأنفسنا استخدام هذا المصطلح المستعار من معجم أهل السرّ. وأن يكون طريقةً يعني أنه أحجية تسري في الروح عميقاً، قبل أن تجد الطريق إلى الدمّ. إنه منهج الحرية، المترجم في حرف مسلك السَّلَف عفويّاً، كما يليق بنواميس الأمّة البريّة، ولذا فهو طبيعي، إذا ما قورن بالمناهج المدرسية، المعتمدة في مدارس الأمم العمرانية. ذلك أن هذا المريد، الذي أقبل إلى المدرسة لكي يَعلم، كحال كل تلميذ، لم يقبل لكي يتلقّى حرف المنهج وحسب، ولكنه أقبل لكي يُلقِم العقل كل ما يجود به الواقع الدنيوي الثريّ من وقائع هي، من وجهة نظره، كلها علوم. ولذا لن نخطئ إذا حاولنا أن نرصد فيه لهفة الإنسان الظامي لحقيقة هذا الوجود، لنكتشف فيه ذلك الفضول الفطري الذي لا يقنع بحرف المنهج، ولكن بالمنهج الذي يسري في نشاط ربّ المنهج، الملكّف بتلقين المنهج، الذي لن يكون هنا سوى معلّم المنهج. لأن المعلّم، في يقين النشء، ليس مجرد شخص يمارس عمله، ولكنه نموذج. نموذج في ترجمة المنهج إلى واقع. ولم تكن الأجيال لتتغنّى بالمعلّم كرسول إلّا بسبب هذا البُعد الغيبيّ، المستنزل في حقّه منذ الأزل. ولذا نحن كمريدي حقيقة لا نقرأ ما يلقّنه هذا النموذج، هذا الرسول، ولكننا نريد أن نقرأه هو. نريد أن نعلم عمّا إذا كان حقّاً عالمٌ بما يُعلِّم، ومسلكه العملي، أي الأخلاقي، وحده برهاننا إلى ذلك. وأبو زيد المشبع بحكمة أسلافه الدهاة، وربّما بالحدس الأقوى مفعولاً من كل الدهاة، كان يستجيب لنداء الضمير عندما لقّن الجيل نصّ النهج، الأعظم شأناً من نصّ المنهج، لأنه لا يقف عند حدود تعليم أبجديّات اللغة، ولكنه يأبى إلّا أن يعلّم أدبيّات الحرية، بل وأبجدية الحقيقة، فلا يكتفي بالخطاب لتسويق حججه، ولكنه يمارس الأبجدية عملياً، تجريبيّاً، لتتحوّل لغةً في مسلكه، بل ونبوءةً في رؤيته.

فالفلسفة في ممارسة ترويض الجيل على الحقيقة هي ما ربّى في هذا النموذج روحاً رسالية، نزّهته عن عقليّة أقرانٍ له كُثير في تلك المرحلة المبلبلة بالأيديولوجيات، لتستنزل فيه عمقاً إنسانياً ووجودياً، ضَمَنَ به منزلة مميّزة في واقع كانت فيه الولاءات الأيديولوجية هي القياس في أية علاقة إنسانية، لتبدأ رحلة اغتراب الإنسان عن أخيه الإنسان، بسبب تدخّل جرثومة لئيمة هي الشعارات.

بهذه المبادئ، المجبولة بحكمة الأزل، نزل أبو زيد عمر دوردة ساحة وطنٍ مازال يتوجّع بنزيف جراح الأزمان، ليهوّن الفجيعة في الوطن، والألم في روح سليل الوطن، لتغدو له المبادئ تعويذةً في العراك الأبديّ مع تلك الأشباح، التي قُدّر لها أن تكون بليّة كل وطن، متمثّلةً في بعبعٍ اسمه الدولة، كان له أن يتنكّر للقيم كما يليق بكل دولة رأسمالها السلطة، ليكون شاهداً على جيل الآباء وهم يشهدون الورم يفترس الدولة التي اشتروها بنزيف الروح، إلى جانب نزيف الدم، فيتحسّرون على مصير وطنٍ مرتهنٍ في هذا الحرف البشع المدعو دولةً، ولم يكن ليتخلّى عن ضلاله حتّى بعد أن انقلبت الدولة على الدولة، لتولد دولة أخرى أحسن الناس بها الظنّ في البداية، ولم يدركوا أن الرهان على الدولة في تحقيق العدالة باطل أباطيل، لأن طبيعة الدولة أن تحتكر الحقيقة، وتسرق صلاحيّات ربّ الأرباب في تسفيه العدالة، بدل تحقيق العدالة، وليس لمن شاء أن يبقى في صلحٍ مع ضميره إلّا أن يفعل ما بوسعه كي يُقلع عن جدوى تغييرٍ في الواقع، يأتي من خارج الواقع، بمشيئة مجّان، ويلتزم ما أمكن بإحكام الضمير، في العلاقة مع أنظمة الدولة، إذا شاء أن ينصف المستضعفين، مهما كلّفه هذا التنازل من تضحيات. فليس صواباً أن نقنع باستحالة أن نقوم بأداء الواجب في ظلّ نظام سياسي يدمن احتكار الحقيقة، لأن هذا الموقف أفيون في سياسة كل الأنظمة السياسية، مهما تشدّقت بالحرية، أو تغنّت بممارسة تقليعة الحداثة المدعوّة باسم الديمقراطية. لأن وجود فرسان الواجب، أمثال النموذج الدّورديّ، في عالمنا المعادي للقيم، هو ضمان العزاء في محنة اغترابنا الفجيع عن حقيقتنا، ليدفع أمثاله ثمن تجديف الأنظمة في حقّ هذه الحقيقة بالإنابة عنّا. فكما نختار أولئك الذين قررنا أن نغدق عليهم بإحساننا، كما تقضي الحكمة، لكي يكونوا موضوعاً جديراً بهذا الإحسان، كذلك ينبغي أن نكون شجعاناً بما يكفي، كي نختار صحبان الواجب، كي يكونوا شفعاء لنا لدى جناب الحظوظ، لتكون موضوع إحسانهم، في كل ما متّ بصلة في قضاء حوائج الدنيا. أمّا إذا تولّت عنّا العناية الإلهيّة الأمر، وأجارتنا من وجوب الاستجارة بالأغيار، بأن نصّبت أمثال هؤلاء، لكي يكونوا هُم لا سواهم أصحاب فضل على أمثالنا من ملل المستضعفين، فذاك اصطفاءٌ استثنائي لا يقدّر بثمن. وهو ما يصلح ترجماناً لتجربتي مع أبي زيد، لأملك الحقّ في أن أُفتي في شأن ماهيّته كإنسان، أو التصريح بحقيقته كشهيد وجدان، في واقعٍ جاحدٍ لم يعترف يوماً بفضلٍ لنبيّ في وطنه، فلم يكتفِ، ولكنه آلى على نفسه أن يُنكر مآثره في زمنه، ولا يكتشف حجم الخسارة التي مُني بها، إلّا بعد أن يغترب عن واقعه، بالتحرر من بلاط هذا الباطل، وارتياد ملكوت ذاك الباطن.

فإذا كنّا على امتناننا للسلطة، التي نعلم كلّنا كم هي شرّ، فإن لزاماً علينا أن نعترف لها بالفضل لقاء بطولة يتيمة، هي قدرتها على كشف معادن، أولئك الذين حسبناهم في حياتنا أخلّاء، ليكون أبو زيد عنقاء مغرب في منطق هذه الجنيّة، لأنه الوحيد من بين كل مَن عرفت، الذي استطاع أن يشذّ عن القاعدة، ليحتفظ بمعدنه النقيّ، وهو الذي تنقّل في كل المناصب، بما في ذلك رئاسة الحكومة، فاستحقّ أن يحقّق البطولة، التي أعجزت أئمّة الحكمة في محفلهم، الذي سخّروه لحقيقة السلطة في جلستهم المنعقدة بأثينا، منذ ألفَي وستمائة عام!

فروح الفروسيّة، بل روح الشهيد، هي الإصرار على أداء الواجب، في ظلّ سلطةٍ ترى في هذا العمل تجديفاً في حقّ طبيعتها، حتّى لو تبدّى هذا النموذج درويشاً في هذا المسرحية الدنيوية الهزلية، ليستعير في نظر الناس دور دون كيخوت، الذي لم يكن ليحظى بالرواية الأكثر شعبيةً في العالم، لولا استماتته في التشبّث بحرف فروسيّة القرون الوسطى، في زمنٍ صارت فيه هذه التقاليد أضحوكةً، بعد أن دُفنت منذ قرون.

فهل نعترف لأمثال أبي زيد بالموقف الشجاع، سداداً لدَيْن، هو، في الحرف كما في الفحوى، قرينٌ للدِّيْن، كما هو الحال مع الوفاء؟ هل يحتاج الشهيد لشهادتنا بعد حلوله في وطن الربّ؟ هل يحتاج صاحب قيمةٍ كأبي زيد إلى وفاء، وهو الذي كان في غنىً عن هذا الطقس أثناء حضوره قيد الحياة، فكيف يحتاجه بعد حضوره في البُعد الوحيد الذي لا يعود فيه المخلوق الفاني في حاجة لأي شيء؟

فالصواب أن نشهد لمن أحسن عملاً، ونُكبر مَن لم يبخل بالتضحية في سبيل إحقاق حقّ، انتصارا لحقّ الحقيقة علينا، وانتصاراً لمن زهد في حطام الدنيا، ولم يراهن يوماً على باطل أباطيل الدنيا. وطبيعي أن يكون مجرد وجود مثل هذا النموذج، المجبول بمثل هذه الروح، في عالمنا المعادي للحقيقة، هو التحدّي الأصعب، في العلاقة مع أي سلطة دنيويّة، سيّما في صيغتها الشموليّة. وها هو الصّدام ينشب في أوّل تجربة بين القطبين. فقد تمّ تعيين الرجل محافظاً لمدينة ذات وزن استثنائي في تاريخ الوطن، وهي مصراتة، ولكن الأوزان، في حساب الإنسان البرّي، ليست أوزاناً بالسيماء، ليست أوزاناً بالحجم، ليست أوزاناً بالقمقم، ليست أوزانا بالوجاهة، المستعارة من المنزلة الاجتماعية، أو من الحظوة في العلاقات الإنسانية، ولكنها أوزانٌ بالقسطاس، لأن القسطاس، بمنطق الإنسان الطبيعي، هو القياس. وليس للإنسان المسكون بالهاجس الطبيعي إلّا أن يحتكم إلى ساحة المنطق الطبيعي في أي مسألة ذات صلة بالعدالة، عملاً بوصيّة الوصايا في الناموس الطبيعي وهي: "العين بالعين والسنّ بالسنّ". وهو المبدأ الذي استخدمه أبو زيد في أوّل مواجهة له مع عالمٍ آخر، عمراني النزعة، محكومٌ بحرف مميت هو القوانين الوضعيّة، فلا يستحي أن يستعير مفاهيم أحكامه من معجمٍ رذيل هو الوضاعة، لأن اغتراب المفاهيم من واقعه تشفع له خطاياه. فما موقف الإنسان البرّي، الإنسان البريء، المفطور على مفهوم آخر لقدس أقداس كالعدالة؟

لقد انتصر الرجل للروح التي تُحيي، ليحطّ بذلك من بطش الحرف الذي يُميت، معلناً الحرب على القوانين الوضعية، الجائرة، التي سنّها أناس ليس همّهم الانتصار للعدالة الإلهيّة في أي إثمٍ أرضيّ، ولكن همّهم البحث عن صيغة للاحتيال على القانون السماوي، بهدف إيجاد ذلك المخرج، الذي تغنّى به حكيم السّكتيّين، وعضو محفل الحكماء السبعة، عندما أقبل على إمام المحفل صولون في أثينا، أثناء انكبابه على سنّ القوانين لأمّة الإغريق، فسخر منه قائلاً: "ألاَ تعلم يا صديقي أن القوانين الوضعية كبيت العنكبوت، الذي ينفذ منه الأقوياء بيُسر، ولا يقع في شِباكه سوى الضعفاء؟"

وكان من المنطقي أن يجد نموذجنا نفسه ضحية هذه اللعبة الماكرة، المفروضة بخبث التشريع المدنّس بالروح العمرانية، التي لم تكن لتجرؤ على اقتراف هذه الآثام، لو لم تقم ببيع الحرية يوماً، عندما كفرت بدين الهجرة، وآثرت أن تستسلم لمشيئة مكانٍ، هو بالسليقة مثوى، ليستدرج إلى الهجعة الأبدية.

لقد قام جلاد روح القانون العمراني بوضع القيد في يدي الانسان الذي حاول أن يعيد الاعتبار للعدالة المفقودة، عندما نفّذ في مَن جدّف في حقّ القانون المنطقي، الطبيعي، الإلهي، القصاص المستحق بموجب هذا المنطق بالذّات، ليبدأ مسيرة تجربته في السجن، عملاً بوصيّة هنري ثورو: "المكان الوحيد المناسب للإنسان النزيه هو السجن!"

فالنزاهة حُجّة في منطق الروح، ولكنها سلطة هشّة بمنطق الواقع، المحكوم بسلطة جلّاد هو العالم، الذي لا يعترف بوجود المنطق ولا بوجود الروح.

فأن يكون بطل الملهاة نزيهاً، فتلك حجّة كافية لكي ينال قصاص العالم المعادي للنزاهة بالأرومة، مادام هو في الأصل ثمرة خطيئة، ثمرة المعصيّة التي شَردتنا بنفينا عن الفردوس، فلا يملك نموذجنا إلّا أن يستسلم بتسليم نفسه لمشيئة الجلّاد، مادام لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ليذهب إلى المعتقل طوعاً، مادام البريء ليس بريئاً حتى تثبت إدانته، ولكنه، بمنطق الجلّاد، هو آثم حتى لو تثبت براءته، بقطع النظر عن هوية النظم السياسية القائمة، لأن رهان الأنظمة ليس على الحقيقة، ليس على العدالة، ولكن على عمل ما يضمن احتفاظها بالسلطة.

ويبدو أن الأقدار لم تسخر هنا، بقدر ما سطّرت نبوءةً، في حقّ الإنسان الذي قرر أن يعتنق دين الحقيقة في كل عمله الأرضيّ، فليس له أن يندم إذا اعترضته الأشباح في ظلمات هذا العالم السفليّ، لكي تلقّنه الدرس الذي جادت به على كل الأنبياء والرسل وكل المصلحين العظماء، القائل بأن عليه أن يقبل بقدر الشهيد، مقابل الفوز بغنيمةٍ نفيسةٍ هي أداء الواجب، لأن السعادة إنّما تسكن وصيّة أمير الشعراء أحمد شوقي، في رثاء أمير الشهداء عمر المختار:

"إن البطولة أن تموت من الظمأ                                    ليس البطولة أن تعبّ الماء!"

والدليل أن السيرة التي بدأت بالسجن، انتهت بعد أربعة عقود في السجن!

اغترب من واقعنا أبو زيد، ولكن هل يغترب من واقعنا إحسان أبي زيد؟

أعجوبة الإحسان في حقيقته كطينة خالدة، غير قابلة للزوال، حتّى لو غاب المحسن، وحتى في حال غاب من الوجود المحسَن إليه. لأن الرهان على عنقاء الزمان المدعوّة في لغتنا قيمةً. القيمة لا تفنى لأنها ليست غنيمة نفعيّة حتى لو كانت في أصلها ترجمة لنفع، لأن ما ينزّهها عن حضيض النفع هو النيّة، هو نبض الحدَس، الذي جاد بالحبّ، وأيُّ صنيعٍ حظيَ بشفاعة حبٍّ هو حجّة تاريخية، لا تلبث أن تستعير وجوداً دهرياً، غير معنيّة باختفاء الفاعل أو المفعول. وهو ما يستنزل فيها تزكيةً ربوبية، سيّما عندما يكون هذا الإحسان ليس محصوراً في شخص، أو في أشخاص، ولكنه إحسان في حقّ وطن!

فالإحسان، مع مرور الزمن، يغدو شهادة الأبديّة في حقّ الطبيعة، بعد أن كان واجب الإنسان في حقّ أخيه الإنسان.

لهذا السبب كان نكران الإحسان، في ناموس كل الأمم، جُرماً في حقّ الإنسانية، وتجديفاً في حقّ الربوبية.