في وقت ما زالت الحرب الروسية الأوكرانية تستعر وتهدد الأمن والاستقرار العالميين، وتحدِث أزمة خطيرة في الطاقة والأمن الغذائي العالمي، واستقطابا دوليا لم يألفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، تتأجج أزمة دولية جديدة، ليست أقل خطرا، بين الصين والولايات المتحدة حول تايوان.

وسبب هذا التوتر هو الزيارة التي تعتزم رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، القيام بها إلى تايوان، بينما تعارضها الصين وترى أنها انتهاك للسيادة الصينية، باعتبار أن جزيرة تايوان، المستقلة فعليا منذ 73 عاما، جزء من الأرض الصينية.

رئيسة مجلس النواب الأميركي، البالغة من العمر 82 عاما، والتي تتقاعد قبل نهاية العام، مصرة على زيارة تايوان، دعما منها لهذه الجزيرة المستقلة فعليا، لكنها ليست عضوا في الأمم المتحدة، لما تراه حق الشعب التايواني في تقرير مصيره. غير أن الصين هددت بأنها لن تسمح للطائرة التي تقلها بالهبوط في الجزيرة، حتى لو تطلب الأمر استخدام الصواريخ وباقي الأسلحة، حسبما ذكرته صحيفة التايمز!

الرئيس جو بايدن لا يمتلك حق منع رئيسة مجلس النواب من القيام بهذه الزيارة، على الرغم من أنها تنتمي إلى الحزب الديمقراطي، الذي ينتمي إليه، فهي رئيسة السلطة التشريعية التي تخضع لها السلطات الأخرى، ولها مكانة كبيرة في الولايات المتحدة، إذ إنها أول امرأة تتولى رئاسة مجلس النواب عام 2007 في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش (43)، الذي قال أثناء إلقائه خطاب حالة الاتحاد (لي الشرف أن أكون أول رئيس يخاطب رئيس مجلس النواب بعبارة "سيادة الرئيسة").

لكن الرئيس بايدن دفع وزارة الدفاع لأن "تنصحها" بتأجيل الزيارة، وقد صرح بأن وزارة الدفاع ترى أنه من غير المناسب حاليا أن تقوم رئيسة مجلس النواب بزيارة رسمية إلى تايوان.

بيلوسي لم تمتثل حتى الآن لنصيحة وزارة الدفاع، خصوصا وأن زيارتها تتمتع بتأييد معظم النواب، وبالتحديد نواب الحزب الجمهوري المعارض. ويعتبِر مراقبون أن إلغاء الزيارة، أو تأجيلها، سيكون بمثابة إشارة ضعف تقدمها الولايات المتحدة للصين، ما يجعلها تتشدد في مواقفها، بل قد تستخدم القوة في السيطرة على الجزيرة "العاقة".

حكومة تايوان ترحب بزيارة بيلوسي، وتعتبرها دعما معنويا كبيرا واعترافا رسميا من الولايات المتحدة بسلطة الحكومة التايوانية على الجزيرة، لكنها في الوقت نفسه قلقة من تبعاتها، خصوصا وأنها أججت مطالب الصين بضم الجزيرة، وقد تدفعها للتعجيل بضمها إلى جمهورية الصين الشعبية، التي تختلف معها سياسيا واقتصاديا وثقافيا بعد 73 عاما من الاستقلال الفعلي.

وتعارض الصين أي زيارات رسمية خارجية، أو أي تعبير أجنبي لدعم شرعية انفصال تايوان، وقد عبَّر العديد من مسؤوليها عن سخطهم من زيارة بيلوسي وقالوا إنها "لن تمر دون عواقب". وتُعتبَر هذه الزيارة، إن تحققت، الأولى التي يقوم بها مسؤول أميركي رفيع إلى تايوان، منذ زيارة رئيس مجلس النواب الأسبق، نيوت غِنغرِش، عام 1997، في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون.

لكن تلك الزيارة تختلف قليلا عن هذه. فغِنغرِش كان جمهوريا متشددا، في وقت كان الرئيس ديمقراطيا، وربما أراد غِنغرِش أن يحرج الرئيس كلينتون من خلال تلك الزيارة ويظهر استعداد الحزب الجمهوري لأن يكون أكثر صرامة مع الصين من الحزب الديمقراطي. إضافة إلى ذلك، فإن الصين لم تكن بالقوة التي تمكِّنها من أن تفعل شيئا غير الاحتجاج الدبلوماسي، خصوصا وأن علاقاتِها التجارية مع الولايات المتحدة آخذة في التطور في تلك الفترة. أما هذه الزيارة فإنها تأتي في ظروف مختلفة، دوليا وأميركيا. فالرئيس الأميركي بايدن، ورئيسة مجلس النواب، بيلوسي، ينتميان إلى الحزب الديمقراطي، ولا يمكن أن تُفَسَّر زيارة بيلوسي بأن هدفها إحراج الرئيس، كما حصل في زيارة غِنغرِش عام 1997، حينما كانت الصين منشغلةً باستعادة هونغ كونغ من بريطانيا.

وحسب السفير الأميركي في الصين، نيكولاس بيرنز، فإن العلاقات الأميركية الصينية قد تدهورت إلى مستوى ما قبل زيارة الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نكسون، إلى الصين عام 1972 التي أنهت القطيعة بين البلدين. وهذا ما دفع الرئيسين، الصيني، شي جِينبِنغ، والأميركي، جو بايدن، إلى إجراء مكالمة هاتفية استمرت ساعتين وعشرين دقيقة يوم الخميس الماضي، حول تطوير العلاقات بين بلديهما، لكنهما، على ما يبدو، لم يبحثا بعمق الأزمة الخطيرة المحتملة الاندلاع، لو مضت بيلوسي بزيارتها لتايوان.

وأوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية أن المكالمة بين الرئيسين قد حصلت ابتداءً بسبب الزيارة المحتملة لرئيسة مجلس النواب إلى تايوان، أي أنها السبب في إجراء المكالمة ابتداءً. ويبدو أن الرئيسين أكدا على موقفي بلديهما الثابتين من تايوان، فالرئيس الأميركي أكد من جديد على أن الولايات المتحدة مازالت تؤيد وحدة أراضي الصين، التي أسست للعلاقة المثمرة بين البلدين قبل خمسين عاما، إثر زيارة الرئيس ريتشارد نكسن لبكين، لكنها لا ترى أن الوقت مناسب لتغيير الأوضاع الحالية في الجزيرة، أي أن واشنطن لن تسمح بضم الصين لتايوان. بينما أكد الرئيس الصيني أن بلاده لن تسمح بأي انتهاك للسيادة الصينية وأن "من يلعب بالنار فإنه سيحترق بها"، وهذا لا شك موقف صيني متشدد.

وقد وصف رئيس اللجنة القومية للعلاقات الأميركية الصينية، ستيفن أورلينز، المكالمة الهاتفية بأنها كانت "مثمرة" لأنها وضعت الأسس الدنيا للعلاقة، بين البلدين "على الرغم من وجود الفيل في الغرفة"، في إشارة إلى مشكلة تايوان، التي تجنَّب الرئيسان الخوضَ بتفاصيلها. لكن أورلينز يعتقد بأن مجرد إجراء المكالمة بين الرئيسين هو تقدم، لأن العلاقة في رأيه تواجه مشاكل عميقة، والإشارة هنا ليست فقط للقضايا العالقة بين أميركا والصين، وإنما لموقف الصين المتفرج، أو المساند، لروسيا في الأزمة الأوكرانية.

لا تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون أن يتجاهلوا الموقف الصيني في صراعهم مع روسيا. كما لا يمكنهم أن يخوضوا صراعا مع كليهما في الوقت نفسه، فتحالف الصين وروسيا يشكل قوة علمية هائلة لا يمكن بأي حال من الأحوال التغلب عليها. لذلك فإن الموقف المحتمل هو تحسين العلاقات مع الصين، أولا لكسبها في الصراع مع روسيا، أو على الأقل لدفعها للتوسط لإيجاد حل للأزمة الأوكرانية-الروسية، وثانيا لتحقيق مكاسب اقتصادية، فالولايات المتحدة والدول الغربية عموما، انتفعت سابقا من الواردات الصينية المتدنية الأسعار، والتي ستساهم في خفض معدل التضخم المرتفع حاليا، وكذلك السلع الوسطية الصينية التي ترفد الصناعات المتطورة في أميركا وأوروبا.

وتعتبِر الصين تايوان جزءا لا يتجزأ من أراضيها، رغم أنها تحكم نفسها بنفسها، بل تدعي شرعية تمثيل الأمة الصينية بعد أن استولى الشيوعيون على السلطة في البر الصيني عام 1949، الأمر الذي دفع أركان نظام الجمهورية الصينية، إلى الفرار إلى تايوان والتمترس فيها. لذلك، فإن استقلال تايوان الفعلي منذ ذلك الوقت، لا يعبِّر عن انفصال الجزيرة عن البر الصيني فحسب، وإنما عن انقسام أيديولوجي بين اتجاهين سياسييْن واقتصادييْن واجتماعييْن مختلفين، وهذا هو الذي كان يقلق الحزب الشيوعي الصيني الحاكم. فجمهورية الصين الشعبية، التي يبلغ عدد سكانها مليار ونصف، تمتلك حق تمثيل الأمة الصينية فعليا ودوليا، وتشغل منذ عام 1971 مقعد الصين في مجلس الأمن الدولي، ويحكمها نظام شيوعي يقوم على سيطرة الحزب الواحد على كل مرافق الدولة، وتتبع نظام الاقتصاد الموجه، رغم الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته الصين خلال العقود الأربعة المنصرمة.

بينما يحكم تايوان منذ مطلع التسعينيات نظام ديمقراطي، ويُدار اقتصادُها حسب النظام الرأسمالي الحر، ويتمتع شعبها بالحريات المتاحة للشعوب الديمقراطية الغربية. رفضت تايوان، واسمها الرسمي جمهورية الصين، إعلان الاستقلال عن البر الصيني وكان أركان النظام السياسي فيها يأملون في أن يتغير النظام السياسي في الصين وتعود دولة واحدة في ظل نظام يرتضيه شعبها.

وكانت تايوان، التي لا يتجاوز عدد سكانها 24 مليون نسمة، تحتل مقعد الصين في مجلس الأمن الدولي، لكن موافقة الأمم المتحدة على منح المقعد إلى جمهورية الصين الشعبية عام 1971، وتحسن العلاقات الصينية الأميركية المفاجئ عام 1972، قد أضعفا موقفها كثيرا، إذ فقدت التأييد الأميركي الرسمي، ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على دعم استقلالها، في ضوء اتفاقها مع الصين الشعبية، الذي تأسس على مبدأ وحدة أراضي الصين، الذي يعني أن تايوان جزء من الصين.

لكن تايوان بقيت تتمتع بحماية عسكرية أميركية، ولولا هذه الحماية لما ترددت الصين في ضمها، لكن السياسة الصينية، على الأقل منذ عام 1978، أولت أهمية قصوى للتنمية الاقتصادية وتطوير علاقاتها مع العالم الغربي، ولم تُعِر أهمية تذكر لضم جزيرة صغيرة مستقرة، لا يمكن أن تشكل تهديدا حقيقيا لها.

نانسي بيلوسي مصممة على القيام بزيارة تايوان في جولتها الآسيوية المقبلة، التي ستختتم بها حياتها السياسية، إذ إنها سوف تتقاعد رسميا في أكتوبر المقبل. هل ستقْدِم الصين على منع طائرتها من الهبوط في العاصمة التايوانية، تايبيه، كما هددت؟ وإن لم تفعل، وهذا متوقع، لأن السياسة الصينية لا تقوم على التصعيد غير المحسوب النتائج، فما هو الأثر الذي تتركه على العلاقات الأميركية الصينية التي بدأت تتطور في الآونة الأخيرة، من أجل استقطاب الصين إلى جانب الدول الغربية في صراعها مع روسيا؟

الرئيس بايدن يعيد النظر حاليا في التعرفات الجمركية العالية التي فرضها سلفه، دونالد ترامب، على الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة، ومثل هذا التطور يهم الصين كثيرا، لأنه سيرفع من نموها الاقتصادي القائم في الأساس على نمو الصادرات، والذي تدنى في السنوات الأخيرة إلى 3.3%، بعد أن كان يفوق 8%، بسبب جائحة كورونا، وتدهور علاقاتها مع أميركا وأروبا. لكنها في الوقت نفسه لن تتخلى عن مبدأ وحدة الأراضي الصينية، وعائدية تايوان لها، والتي كانت تايوان تقر بها، رغم أنها تتطلع منذ عام 1971 إلى الاعتراف الدولي بها، والذي لم يعد ممكنا في ظل تنامي قوة الصين الشعبية عالميا.

وفي الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة هي الأخرى لا تريد أن تبدو ضعيفة أمام الخطاب الصيني المتشدد، وهي على الأكثر لن تتخلى عن دعمها لتايوان، التي تعد من البلدان الديمقراطية المتطورة صناعيا، والتي تأتي في المرتبة العشرين عالميا، من حيث مستوى دخل الفرد، والمرتبة الحادية والعشرين من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي.

ومع إصرار بيلوسي على إدراج تايوان ضمن زيارتها المقبلة، رغم أنها لم تصرح بذلك علنا، لأسباب أمنية، فإن الحل لهذا المأزق قد يكمن في تأجيل زيارة بيلوسي إلى ما بعد تقاعدها، وعندئذ، ستكون مواطنة أميركية عادية، ولن تثير غضب الصين، وفي الوقت نفسه يمكنها الادعاء بأنها لم تخضع للضغوط السياسية الصينية. الاحتمال الآخر، هو أن تلتقي الرئيسة التايوانية، ساي إنغ-وين، في إحدى دول آسيا التي ستزورها، وعندها يمكنها تبرير عدم زيارتها تايوان بانتفاء الضرورة لها. وفي كل الأحوال فإن الإدارة الأميركية سوف تسعى لتجنب الاصطدام بالصين في وقت تخوض فيه صراعا مريرا مع روسيا.