الأمم المنسيّة هي أمم ميثولوجية، وعندما نقول "المنسيّة" فذاك نعتٌ آخر لما يمكن أن نسمّيه "البدئية". وهو ما اعتمدناه في موسوعتنا "بيانٌ في لغة اللاهوت" بأجزائها السبعة، الصادرة منذ ربع قرن.

أما عندما نقول إنها ميثولوجية، فذاك امتياز يخفي صلاحية استثنائية، لأن رهان البشرية كان يوماً، وسوف يبقى دوماً، على الذاكرة المغتربة في وجود الجنس البشري على هذا الكوكب. ومفاهيمنا الوجودية. السارية في تجربتنا رهينة شفرات نفيسة، تسكن ذاكرة هذه الأمم المنسية، وما محاولات السير جيمس فريزر في عمله الموسوعي الجريء "الغصن الذهبي"، أو استكشافات السير تايلور في النزعة الإحيائية لدى الأمم الأهلية، أو معالجات كلود ليفي شتراوس في إناسة الهنود الحمر، سوى هاجس الفلسفة في استطلاع حقيقة واقعنا، على ضوء ما ظلّ وديعةً ثريّة، تسكن ثقافات هذه الأمم، التي نستهين بها، ولهذا السبب نتجاهلها. وعلّ الحقائق المذهلة التي كشفت عنها لغة الأمّة العريقة التي ننعتها باسم "الطوارق"، المترجمة في "بيان في لغة اللاهوت" هي البرهان على اغترابنا نحن عن أنفسنا، باغترابنا عن تلك المفاهيم الخطيرة التي تتكتّم عليها لغة هذه الأمّة المنسيّة. إذْ يكفي أن نسائل كلمة واحدة، تبدو بريئة ومتواضعة وخجولة في منطوقها في اللسان العربي، مثل كلمة "إثم" حتى تتكشّف دلالتها السخيّة، عند استنطاق المفهوم الذي مازال يجري في لسان أبناء الذاكرة المنسيّة في كلمة "بكّات"، تنطق أحياناً في لسان هذه الأمّة "بكّاض" التي يستعيرها اللسان اللاتيني بحذافيرها، ترجمةً لذات المفهوم، في Peccatum، لأن الـ um في اللاتينية، إضافة تستنزل في الكلمة الإسمية.

أمّا في حال احتكمنا إلى اللسان اليوناني القديم فسوف يتحفنا بلُقية أخرى عندما يورد: martia للتدليل على "الإثم". وهي صيغة حرفية للكلمة العربية "مرثيّة". فلماذا حقّ لليونانية أن تنعت "الإثم" كمفهوم بكلمة اصطلاحية في كل اللغات، كما هو الحال مع "المرثية"؟

هذه أحجية لن تتجلّى ما لم نستجوب الأصل، أي "الإثم" في أرومته البدئية. ففي العربية نستخدم كلمة "تبكيت الضمير" للتدليل على تأنيب الضمير. فإذا تأمّلنا هذه الكلمة مليّاً (تبكيت)، فسوف تفاجئنا حقيقتها المستعارة من الأصل البدئي "بكّات" أو "بكّت"، المعتمد في اللاتينية في peccatum أي أننا، عندما نقترف إثماً، نحن نتبكّت، أو نتأثّم، تكفيراً عن جرمٍ ذي بُعدٍ دينيّ، وجوديّ، يغوص بعيداً في كينونتنا، فلا نجد ما نعبّر به عن توبتنا سوى: البكاء!

هل قلنا بكاء؟

بلى! كلمة "بكى" بالعربية أيضاً استعارة حرفية مباشرة من مصدر جسيم الشأن هو "بيكات" أو "بكّت"، لأن التاء هنا ليست سوى علامة تأنيث سواء في لغة الطوارق، أو في العربية، والأصل هو "بكا"، الذي لن يختلف في "بكى" إلّا في التدوين، لا في المنطوق.

هنا نقع على كنز آخر، تهرع به إلينا اليونانية، في مفهومها المعتمد للتعبير عن "الإثم" وهو martia، أي: المرثية!

وما هي المرثية في المفهوم إن لم تكن بكائية؟

ألا يعني هذا أن الإصرار على اعتبار الإثم هو سرّ كل النكبات التي حاقت بنا كسلالة، لتتحوّل اللغة ترجماناً أميناً لسيرة المعصية الأولى، التي اغتربنا بسببها عن الفردوس، كما تورد المتون المقدسة حرفياً؟

ولكن المفاجآت لا تتوقف عند هذه التخوم، بل اللغة تأبى إلّا أن تجود بالمزيد، لأن ما يروق الأحاجي دوماً أن تفضح سرّ الأحاجي. فاسم مكانٍ مقدّس في مقام "مكّة" يعني في لسان الأمّة المنسيّة "المزار"، اشتقاقاً من كلمة: "إكّا"، الدالّة على الذهاب لأداء فريضة مّا، أو واجب مّا، أي الاحتكام إلى المكان الذي يُحجّ إليه. أي أنها: حرم، لأن الميم إضافة إسميّة، أمّا التاء فللتأنيث.

ولكن المفاجأة الأكثر إثارةً للفضول حقاً هو دلالة الاسم الثاني لهذا الحرم، الذي استغلق معناه على أهل الحكمة منذ الأزل، بإجماع الأئمّة وهو: "بكّا"، أو "بكّة" (في حال التأنيث)، وكان على أهل التقوى أن ينتظروا طويلاً كي يتلقّوا الوصيّة من لسان تلك الأمّة، التي حسبناها بدْئية، بل ووثنية، مترجماً في صيغة مستعارة من "بكّت"، أو "بكّات"، أو "بكّة"، كتأنيث.

فلماذا حقّ لدهاة العالم الأقدم من القدمة أن يطلقوا على مكانٍ جليل، هو محجٌّ لأهل الإيمان، اسماً مستعاراً من "الإثم"؟ يكفي أن نقول جواباً على السؤال أن كلمة "إثم" هنا هي الترجمة الحرفية لجملة اعتدناها في أدبياتنا الدينية هي "بيت الله الحرام". فالحرام، أو الحرم في المفهوم اللغوي، من المتضادّات، فهو يعني الإثم من جانب، كما يعني القداسة من جانب آخر. فأداء الشعائر الدينية دوماً ممارسة للتكفير عن آثام. ومبدأ التوبة، أو التكفير الذي يتطهّر الآثم بموجبه من إثمٍ، هو في هوية الإنسان: اسم.

فكلمة "إثم" هي نفسها كلمة "اسم"، لأن الثاء المثلثة تستعير دور السين. وهذه لقية أخرى تسعفنا بها اللغة، ممّا يعني أن كلمة "آدم" هي نفسها كلمة "آثم"، كإبدالٍ شائع بين الدال والثاء. ولهذا السبب حقّ لهذا المخلوق أن يرثي نفسه، عملاً بالمفهوم اليوناني لهذه السقطة الأخلاقية المميتة، فيبكي مصيره أبداً، بالمفهوم العربي للإثم، المعبّر عنه في كلمة "بكى"، فلا يملك إلّا أن "يتبكّت" ضميراً، أي يتأنّب، أو يتعذّب روحياً كل أيام حضوره في منفى منافٍ اسمه: الأرض، مادامت الماهيّة "الآدميّة"، هي رديف للـ"آثمية"، المعبّر عنها في وَسمٍ هو الاسم، الذي لم يكن في الصيغة الأولى سوى الإثم!

وكون ماهيّة الإنسان بمثابة مرثيّة بالفطرة، في مفهوم منطوق كلمة "إثم" في اللسان اليوناني، فتلك لقية أخرى، يجهل حقيقتها اليونانيون أنفسهم كمفردة لغويّة، ولكنه لم يبخل بها عندما عبّر، في ملاحمه، عن الإنسان بوصفه مرثيّة ما دَبّ في هذا الوجود على قدمين، في حين حقّ للسان الذاكرة المنسيّة أن يتباهى بأحاجيه، التي تتغنّى بوحدة المغامرة الأسطورية، المدعوّة في منطقنا وجوداً.

وها ما سيعني أن علّة شقوتنا الكينونية إثمٌ بدئيّ، يسري في طينتنا كورمٍ خبيث، ولذا نحن، بالسليقة، لا نحيا تجربة مرثيّة، ولكننا نحن جرثومة مترجمة في حرف المرثيّة.