(مداخلة المؤلّف كضيف شرف في ندوة «تساؤلات الهويّة» المنعقدة في الكويت بين 12 و 14 مايو  2022)

ما الذي يدعو عقلاً مرجعيّاً في مقام القدّيس أوغسطين، لأن يحسن الظنّ بأمّة الرحيل، إلى الحدّ الذي يستنزل في حقّها لقباً مهيباً، مثل «القبيلة الإلهيّة»، في حين يستنزل إدانةً في حقّ قرينتها العمرانيّة، عندما يصفها بـ «القبيلة الدنيوية»؟

هل لعب نداء العرق في هويّة القدّيس أغسطين دور البطولة، في استصدار هذا الحكم، بسبب الإنتماء إلى نوميديا، امبراطورية ما قبل التاريخ، سليلة الصحراء الكبرى، وجلّ شمال إفريقيا، أم لعلّة الإنتماء إلى هويّة أقوى حُجّةً، وأعظم سلطاناً على النفس البشرية، كما الحال مع الماهيّة الروحيّة، في بُعدها الديني، بوصفه القدّيس أوغسطين المؤسس الحقيقي للديانة المسيحية، إلى جانب سلفه القديس بولس؟

لقد كان مبدأ الرحيل افيوناً في أيّة تجربة روحية، إلى الحدّ الذي صارت فيه الهجرة شرطاً لتحقيق النبوّة؛ وها هي الصحراء تتحوّل ملاذاً لصاحب كل رسالة، وملجأً لكل مريد حقيقة، ليحقّ لنا أن نتساءل: أيّ نبيّ لم يحترف الخلوة في البريّة، قبل أن يتنكّب إلهاماً، يؤهّل للنزول إلى ساحة الناس، حاملاً في أعطافه الخلاص، بدايةً بنوح، مروراً بلوط ويونس وإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى، ونهايةً بخاتم النبيين، الذي وضع كلمة الختام في ناموس القران الأزلي الخالد بين الحقيقة والهجرة؟

فلماذا الهجرة؟

هل الاستقرار إثم، بسبب ترف يجود به المقام في المكان؟

فالقدّيس أوغسطين لا يكتفي بأن يتبنّى، في وصيّته، موقف سلفه القدّيس بولس، من قدسية الهجرة، عندما يتغنّى الأخير: «استضيفوا الغرباء، لأن أناساً كثيرين استضافوا في الغرباء ملائكةً وهم لا يعلمون»، ولكنه يدشّن مفهوماً للهجرة، ينزّه مريد الرحيل عن طينته الأرضيّة مستنزلاً فيه أبعاداً غيبيّة، أبعاداً لا تقف عند حدّ الماهيّة الملائكيّة، المعتمدة في فلسفة سلفه بولس؛ ولكن الرهان إنّما يسكن منطق الحقيقة، الذي لم يكن له أن يعترف بعُرفٍ، لم يتطهّر بسلسبيل حرية، ليغدو الإغتراب هو الافيون الذي تتعاطاه الهجرة، وتسوّقه في واقعنا كحجّة حرية.

فأن نقنع بحقيقة الوجود كاغتراب بدئيّ عن الحرية، وكقبول بالخطيئة قدراً، هو ما لا ننكره، برغم أننا لا نملك إلّا أن نستنكره. وهو ما يعني أن حضورنا في هذا الحضيض، الذي نسمّيه وجوداً، إعترافٌ صريح بطينتنا كدَنَس، ولا سبيل للإغتسال من طينته كإثم، إلّا بالإغتراب عنه، أي باعتناق الهجرة ديناً. وهي طعنة في حقّ امتهان الاستقرار، لا بسبب التقام سمومه، المجبولة بإثم المقايضة التجارية وحسب، ولكن تلبيةً لنداء الموقف من سلطةٍ، هي تجديفٌ صارخ في حقّ الحقيقة، التي ليس لها أن تعترف بوجود سلطةٍ، غير سلطة الروح. لأننا عندما نقول السلطة، فإننا نؤكد على السلطة بوصفها رأس المحظورات الإلهيّة، التي اعتاد إنسان العمران أن يتعاطاها: كالملكيّة، أو السلعة التجارية، أو القوانين الوضعيّة، ممّا سيتيح للصحراء أن تتبوّأ منزلة معبد المعابد، الأجدر بممارسة الصلوات، كما هو مترجم في سفر الخروج، حيث يأمر الربّ فرعون بالمشيئة التي تقول: «أطلق شعبي ليعبدني في البريّة»، شهادةً ربوبية حاسمة في حقّ حرمة حرَمٍ هو الصحراء، اصطفته من دون كل بقاع المسكونة، ليكون مسقط رأس النبوّة.

الوصيّة في هذا الإصحاح تطرح سؤالاً جذريّاً عن حقيقة النزال في شأن خروج العبرانيين، من واقعٍ عمراني موبوء بطبيعته الحضرية، لأن النيّة الربوبية في تسريح الشعب، ليست تحريره من غلّ العبودية الفرعونية، للحلول في أرض الميعاد، ولكن لغاية أخرى، أعظم شأناً بما لا يقاس، وهي: عبادة الربّ في البريّة، التي لم تكن يوماً سوى صحراء سيناء.

أي أن الحضور في فردوس أرض الميعاد رهين ممارسة العبادة في أرباع الفسحة الوحيدة، المعصومة من دنس الحضيض الأرضي، وهي الصحراء، لتتحوّل الصحراء قبلةً، معراجاً، للفوز بأرض الميعاد: أرض الميعاد التي لم تكن، بلغة الميثولوجيا، سوى المعبد الموسوم باسم: الصحراء!

أوَ ليست هذه الآية هي الشهادة على حقيقة الصحراء كفسحة حميمية، معصومة من آثام الواقع الحسّي، لم تكن الربوبية لتصطفيها من دون كل الأركان، ولم تكن لتجرّدها على هذا النحو الفجيع، لو لم تشأ أن تكون في الأسافل لوجهها المرآة، التي سخّرتها لأنبيائها، لكي يقرأوا في صفحات صحيفتها الوصايا، ويُسمعوا أنام الأرض مزامير التنزيل؟

فالسليل، مستودعٌ مسكونٌ بذخيرة، الأرومة فيه مرصّعة بفسيفساء تاسوع، لم تخطيء العقلية الميثولوجية الإغريقيّة عندما انتدبته ليكون الشفيع في محفل ربّات الفنون التسع، ربما تيمّناً أيضاً بتاسوع الآلهة في ديانة مصر القديمة. تيمّنٌ مستعارٌ يقيناً من حقيقة الرقم التاسع في حساب الأعداد، لأنه يلعب دور الخاتمة في فلسفة الحساب، ليبرهن على الكمال، ليبدأ الازدواج فيما يليه من أعداد. إزدواجٌ هو شرَكٌ حتى في المنطق. فكيف لا يكون شِرْكاً في مفهوم الدين؟ فكلمة عشر هي «حشر» كإبدال شائع بين العين والحاء، أي «حشو»، فإن لم يكن، فهو إبدالٌ من «شرّ»، أو «أشرّ»، كابدال بين العين والهمزة.

لماذا؟

 لأن التثنية في المفهوم الديني شِرْكٌ. هذا في حين يعبّر إسم الرقم التاسع عن الاتساع في العربية. أي القدرة على استيعاب كل شيء وجودياً. وفي اللغات الهند الأوروبية يدل منطوق الرقم على حداثة العهد بالميلاد. أي البرهان على استكمال شروط الحضور في الكينونة، سيّما في صيغتها التي تتحفنا بها أمّنا الطبيعة في إنتاج الأجنّة في بطون الأمّهات، المترجَم في حرف الأشهر التسعة. وليس مصادفةً أن تستعير لغة بدئية كالعربية إسم السعود، أو حسن الحظّ، من إسم التسعة. ليس هذا وحسب، ولكن عبقريتها أبت إلّا أن تستعير مدلولاً جليلاً كـ«السعادة»، من منطوق الرقم تسعة. فهل يستطيع مفهومٌ حاسم ذو طبيعة غيبيّة، كالهوية الكينونية أن يتجاهل حقيقة الماهية الدينية لهذا الرقم الأسطوري، فيجرؤ على اعتناق دينٍ آخر غير دين التاسوع؟ (*)

 فالكائن المنبثق في رحم التاسوع الزماني هويّة ملفّقة من طينة هويّات. هو بالجبلّة هويّة طبيعيّة، بفضل صفقة العناصر الأربعة، وهو أيضاً هوية وجودية، لأنه كيانٌ مسكونٌ بذات. وهو هويّة إنسانية، لأن المنطق في لسانه حُجّة. وهو هوية أخلاقيّة، لأن الحدَس فيه سلطان رَدعٍ. وهو هويّة عرقيّة، لأن الإنتماء في تجربته هاجسٌ لجوج. وهو هوية ثقافية، لأن العقل فيه قرون استشعار. وهو هويّة وطنيّة، لأنه يهدهد في الوجدان مسقط رأس، يستشعر دفئه بحميمية عُشٍّ، استدرجه إلى واقع مكانٍ، ما لبث أن نصّبه في حياته معبوداً بديلاً لمعبود، أطلق عليه إسم الوطن؛ وهو أيضاً هوية روحية، لأنه لم يحدث أن سمع لحناً شجيّاً إلّا وانتابته شطحة وَجْد. وهو أخيراً هوية ألوهيّة، لأنه حيوانٌ دَيِّنٌ، بدليل أنه، بدون الإيمان بوجود إله، شبحٌ ضائع!

ألا يطرح القدّيس أوغسطين نفسه معادلةً ممتعةً عندما يحرّض في وصيّة أخرى: «إذا كانت البداية إيماناً، فإن النهاية ستكون رؤية!»؟ فإذا شئنا ترجمة هذه الأحجية إلى منطقنا الدنيوي قلنا أن ما يحدّد الوضوح في الرؤية، هو العمق في الرؤيا.

وهو ما لا يتحقق بدون إدمان أفيون الخلوة. إدمان الحضور في واقع اللامكان، واللا إنسان. أي الانقطاع الموجع الذي طلبه كل مريدي الحقيقة، فلم يعثروا له على أثر خارج الصحراء. الصحراء وحدها تجود بهذا الفردوس، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت مسقط رأس النبوّة، وملاذ أهل الزهد في حطام هذه الدنيا. فالتأمّل، الذي نصّبه محفل الحكماء السبعة شرطاً للفوز بالحقيقة، إنّما هو تقنية صحراوية، حَقّ لهذه العرّابة أن تحاجج بها واقع الأمم البيئيّ. فالرؤية تلعب دور القابلة التي تعمل على توليد جنين الحقيقة من قمقم اغترابه في مجاهل الخافيات، ليحقق لنفسه حضوراً في رحاب الباديات. ولا أدري لماذا يصرّ عقل عبقريّ كاليوناني على إطلاق مصطلح الـ Alethea على هذه المعجزة، كأنّه يريد أن يعبّر عن حسن ظنّه بفاكهة هذا التدخّل الجراحي الدمويّ، الذي لن يكون سوى الإحتفاء بالحرف، على حساب الروح، الإحتفاء بالحسّ على حساب الحَدَس، الإحتفاء بالرؤية، على حساب الرؤيا، تبنّياً للوصيّة اللاتينيّة الشائعة «التأمّل العميق حدَثٌ»، على ما يحمله من سوء ظنّ باليقين البولسي (القدّيس بولس) الذي لا يملّ من أن يتغنّى: «نحن غير ناظرين إلى ما يُرَى، ولكن إلى ما لا يُرَى؛ لأن الأشياء التي تُرَى وقتيّة، أمّا الأشياء التي لا تُرَى فأبديّة». والصحراء كاهنة بدئيّة، لم تعترف يوماً بما يُرى، وإلّا لما طهّرت نفسها من كل ما من شأنه أن يخدش حياء واقعها البتول، فآمنت بالعدم ديناً، لأنها جرّبت أن العدم، أو ما ننتدبه في لغتنا عدَماً، ما هو إلّا المستودع الغيبيّ السخيّ، الذي نفخ فينا من روحه، ليبدع، بهذه الأنفاس الرؤيوية الزكيّة، أحجية حضورنا في ساحة هذا الوجود.

فالصحراء روح الطبيعة. والعدم، بحضور هذه الروح، وجود. كما الوجود، بغياب هذه الروح، عدم. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما صارت النبوّة، المنتجة بأنفاس الصحراء، فردوس هذا الوجود.

أوَ ليست النبوّة ترجمان الحقيقة: حقيقة هذا الوجود، بقدر ما الصحراء ترجمان النبوّة: نبوّة هذا الوجود؟

إلى هذه الحجّة يحتكم روبرت موزيل في ملحمته «الإنسان بدون خصال»، عندما يدلي بالشهادة المرجعيّة التي تقول: «لقد كانت الصحراء منذ الأزل وطن الرؤى السماوية».

فهل يبدو الاغتراب عن واقع هذه الهويّة المنزّهة، مجرّد تجديف في حقّ الجذور، مجرّد تجديف في حقّ الوطن، أم أنه نطقٌ بشهادة زور في حقّ المعبود؟

فبالتخلّي عن مسقط الرأس، نحقق الحرمان من معبود أصغر إسمه الوطن، ليكون هذا القربان هو النزيف الروحي، المستوجب الدفع، مقابل الفوز بغنيمة عصيّة كوطن الربّ. فمن كان شجاعاً بما يكفي، كي يعتنق هويّة المهاجر، وحده يجود بالوطن الأرضي، كي ينعم بالحضور في ملكوت الربّ. فهو آنذاك سيكون مسكوناً بروح نبوءةٍ، حتى لو لم يبشّر بنبوءة، لأن الرؤية عتبة لن تعدم أن تستقيم في الرؤيا، لأن النبوّة، حسب نظرية ابن خلدون في تصنيف الوحي، سُلّمٌ يبدأ بإلهامٍ ألفناه في الشاعر، ليحقق منزلةً أرقى في الرئيّ، قبل أن يستقيم في مقام النبيّ. لهذا السبب لم يرجم الأسلاف شاعراً في مقام المتنبّي بالتجديف عندما اعتنق لنفسه إسم «المتنبّي»، ولم يستنكر الأوائل أن يطمع شاعر، كابن أبي الصلت في النبوّة، فكابر، ولم يُسلم. كما لم يُنكر أهل اليونان على امبيدوقليس ادّعاء النبوّة. وهو الموقف الذي عبّرَ عنه  الواسطي عندما اعترف: «كلّنا كنّا على دين الحلّاج، كل ما هنالك أن الحلّاج أعلن، ونحن امتنعنا!» (**) 

فالشاعر أو الحكيم أو الرئيّ، في منطق انسان العالم القديم، هو نبيٌّ، بقدر اغترابه عن حضيض هذا العالم.