(إلى عرّاب التنوير العربي، العزيز أدونيس، في إطلالة مئويّته)

التحريض يحدث من حمَلة الأيديولوجيات، الذين لم يكن لينتموا لغير تلك الفئة التي تخلع على نفسها لقب الصفوة، في حين تتنكّر لقيم الصفوة، لأن أية صفوة يمكن الإعتراف بها كصفوة، إذا كانت لا تتردّد في أن تتنكّر لأنبل قيم الإصطفاء وهي الأخلاق؟

هذه العقليّة، المشوّهة بفعل الأيديولوجيا، لا تهنأ بالاً ما لم تدفع هذا النموذج المغترب، المسكون باليُتم الجسيم، إلى منافي الحدود القصوى، لينقطع بالحضور في واقع يتنكّر للحضور، لأن لا وجود لانقطاع يمكن أن يقارن بانقطاع إنسان فُرض عليه أن يحيا في واقع أناسٍ ليسوا من طينته، والبخل عليه باستخدام لسانه، الذي ارتضعه في حليب الأمومة، كما الحال مع سلالات شمال إفريقيا، ليس مجرد تغريبه عن واقع كينوني، ولكنه فعليّاً حكم بالإعدام في حقّ هذه الهوية، التي لا يشفع لها في مصيرها الشقيّ كونها أصليّة، بل هو ضرب من إبادة روحيّة، إذا شئنا ألّا نسمّي الأسماء بأسمائها فنقول أنها: إبادة عرقية.

فطبيعي أن يختنق النموذج بالغصّة، بل ويلفظ أنفاس النزع الأخير، عندما نقمع فيه القول، عندما نميت في لسانه الأغنية، طالما آمنّا، مع من آمن، أن القول ليس مجرد قول، ليس مجرد خطاب، ولكنه لحن، شعر، أنفاس شعر، شعر ككل شعر، شعر مسكون بالحنين، مسكونٌ بشجن، مسكون بالبرهان الوحيد على الحضور قيد كينونة، سيّما عندما يستقيم في لحن، عندما يتفوّق على هويّته، ويعبّر عن حقيقته كأغنية. وخنق الأغنية في حلق مريد القول كتم لأنفاس الوجود في كيان المريد؛ لأن البيان، في حال استعار هويّة مجبولة بدَيدَن الأمّ، لا يبقى مجرّد بيان، مهما ادّعى اعتناق موقف الحياد، لأن ليس هو، هنا، مَنْ يتباهى باستخدام اللسان، كي يبرهن على حضوره في حضرة الحضور، ولكن اللسان هو الذي يتغنَّى، كي يسوّق له شهادة حضوره. ولهذا السبب كان القول المشفوع بدليل الأم رُقيةً، تميمة سحريّة محبوكة من نبض روح: روح حبلى بأغنية.

الأغنية شهادة الميثوس، الممهورة بتزكية محفل تاسوع آلهات الفنون، للإحتفاء بميلاد حقيقةٍ، الوجود فيها بمثابة حكم غيوب. وعندما يجرؤ سليل الأقليّة على تحميل العضلة، الموسومة في الكتاب المقدّس، وزر النغمة المبشّرة بحقيقة وجوده، السارية في ترسيمة الترنيمة الموسيقية الميثولوجية، فإنه يقامر بحياته في حضرة صاحب الأغلبية، ذلك أن الغنيمة، المنتجة بحرف اللسان ساعتئذٍ، لا تفقد في أذنه سموّ الأغنية فقط، ولكنها تستعير نشاز الرطانة. الرطانة تتحوّل في الحاسّة التي لا ترتوي من السمع، إلى شروع في حبك خيوط مؤامرة، فيتضاعف الإحساس بالخطر من الحضور في حضرة هذا الآخر، المرفوض أصلاً على مستوى وجوده الحرفي، على الخريطة في مجالها المرئي، فإذا استجار اللسان بالعبارة، المستعارة من مستودع كينونته المغتربة، تنزّلت في واقع صاحب الأغلبية الزلزلة، لأن الرطانة في الخطاب، هي رسالة المجهول في المسألة، ولذا فهي، في يقين صاحب الأغلبية، ليست لغواً، ولكنها إساءة تستبيح حرمة اللغة المهيمنة. واللغة المهيمنة هي الوجود المهيمن بالطبع. ولو كانت مجرد لغوّ، أو عوملت كمجرّد لغو في لغو، لما أيقظت في روح الفئة المهيمنة الإحساس بوجود مكيدة مدبّرة، لأنها رطانة، والرطانة في المفهوم الشائع تخفي دوماً إبهاماً مُبهماً. والإبهام جهلٌ بالفحوى، ولذا فهي استفزازٌ لفتنةٍ نائمة، وعدوانٌ جدير بإعداد العدّة لمقارعته.

فسوء الفهم يقوم هنا على الموقف من الخطاب الذي تلعب فيه الرطانة دور البطولة، لأن هذه الرطانة، في واقع خطاب أغلبيّة سائدة، هو بمثابة محاولة من أقليّة مغلوبة على أمرها للإغارة على حرم هذا الخطاب الوجودي السائد، لا لتدنيسه وحسب، ولكن للنيل من غنائيّته، للإيقاع بموسيقيّته، تمهيداً للإنقلاب عليه كشبحٍ دخيل، لاستعادة عرش أصيل، إغترب طويلاً، وحقّ له أن يستعيد موقعه الضائع.

وعلّ المثير للفضول هو حقيقة الموقف من الرطانة، لا في مجال اللغة وحدها، ولكن في مجال سلطة الرطانة في بُعدها الدينيّ. فممارسة شعائر دينيّة، من قبل فئة أقليّة دينيّة أخرى مغلوبة على أمرها، سوف يثير استنكاراً مماثلاً في واقع الأغلبيّة الدينيّة، لا يختلف عن الإستنكار الذي يحدثه خطاب الرطانة في هذا الواقع الغالب.

فالممارسة الدينيّة هنا هي جنسٌ من رطانة أيضاً. هي خروج عن السياق، وخطيئة لا تقلّ خطورة عن خلع البيعة. وبطش معتنقي هذه العقيدة من أقليّات عالمنا الدينية، لا يقلّ في وحشيّته عن البطش الذي تتعرّض له الأقليّات العرقيّة، التي تعتنق خطاباً مختلفاً هو، في النتيجة، أيضاً بمثابة دين.

والوعي اللاواعي بوجود مؤامرة في الرطانة كمبدأ، هو ما دعا السلطات القائمة في واقع الأغلبيات إلى عمل كل ما بالوسع لاحتواء هذه الرطانة الكامنة في خطاب الأقليّة، سواء أكانت ثقافية أو دينيّة. أي محاولة استيعاب هذه الخصوصية بأي ثمن. استيعابها بالحسنى، فإن لم يكن فغصباً. ولمّا كان استيعاب الحسنى يستوجب التضحية بالكبرياء الكاذب، والقبول بوجود لغة الأقليّة، إلى جانب لغة الأغلبيّة، سواء في المستوى العرقي أو الديني، وجوداً فعليّاً، أي الإعتراف بها كلغة أخرى متداولة في المؤسسات السياسية أيضاً، وعلى نحوٍ رسميّ، ليقوم أبناء الأقليّة الدينيّة بممارسة شعائرهم الدينيّة بحرية في دُوْر عبادة، فقد انتكس هذا الخيار الشجاع دوماً تلبيةً لنداء أيديولوجيات اعتادت أن ترفض الإعتراف بالحقيقة نفسها، منذ ادّعت احتكار هذه الحقيقة، وطرحت نفسها كبديل، فكيف تعترف بما رأته دوماً ظلال حقيقة؟

تمّ إسقاط هذا الخيار في واقعنا منذ أمد بعيد، فلم يبق سوى خيار الغصب. أي خيار القمع، لأنه في المتناول دوماً، سيّما في ظلّ غياب الحسيب. في ظلّ غياب الضمير، لأنه الحسيب الوحيد الذي يعوّل عليه في عالم آلى على نفسه يوماً أن يستبدل الحقيقة بالأيديولوجيا، لينصّب الأخيرة على دنيانا معبوداً.

فاليقين بهويّة الرطانة كنشاز، يشوّش على معزوفة الخطاب في واقع أغلبيّة لا يروقها أن تتلو صلواتها إلّا في محراب اللغة السائدة، سوف يرى في الرطانة خطيئة، ويحكم على حاملها بالقصاص، بوصفه مؤامرة تسعى على قدمين، تتوعّد وحدة الوجود بالخلل، بل وتهدّد بإفنائها. وهو ما يستدعي وجوب الدفاع عن اللغة المهيمنة، بوصفه حقّ الدفاع عن النفس، ولكن، بهذا المنطق، يغدو هو الطرف الذي يمارس العدوان. وهو ما يبرّر كل صنوف القمع التي تمارس في حقّه، ويستنزل في بنودها شرعيّة.

فطمس لسان الأقليّة، أو حظر ممارسة الشعيرة الدينيّة في عقيدة فريق آخر من الأقليّة، بذريعة الحرص على وحدة الأمّة، ونداء الأيديولوجيا، في بُعْدها القومي، الذي لا يرى في لغة الأقليّة سوى تطفّل دخيل على الواقع، يهدّد هويّة الأمّة، أي هوية الأغلبيّة، في بعدها العرقيّ، متجاهلاً حقيقة الأقليّة، كثروة ثقافية تثري الذخيرة الروحية لوطنٍ يُفترض أن يكون ملاذ الجميع.