1 ـ الصحراء: طبيعة اغتربت عن الطبيعة

يلقّننا اسبينوزا درساً، يختزل كل فلسفته، في وصيّة ملخّصها: «تشبّث بتلابيب الطبيعة!». فإذا كان الخلاص رهين التشبّث بتلابيب الطبيعة، فماذا سيكون موقفنا يا ترى عندما تغترب الطبيعة عن واقعنا، في حال اختارت أن تتنكّر لطبيعتها كطبيعة؟

ذلك أن الطبيعة أجناس. أو فلنقل أن الطبيعة تجلّيات. فالحياة في محيط بيئي صريح سعادة حقاً، سواء أكانت طبيعة أدغال، أو جبال، أو بحار، أو حتّى أجواء. ولكن كيف يكون موقفنا عندما تفرّ الطبيعة من ربوع الطبيعة لتتحوّل ظلّاً لطبيعة، أو فلنقل أثراً لطبيعة، أو بتعبير أصحّ: روحاً لذلك الفردوس الأرضيّ الحميم، الذي نخلع عليه إسم الطبيعة، والصحراء هي ما يلعب فيه دور الروح؟

فغياب معجزة كالماء، هو ما جرّد الصحراء من شهادة الإنتماء إلى حرم الطبيعة، فلا نملك إلّا أن نعجب من سحر هذا اللغز، الذي استطاع أن يبطل مفعول حجّة الطبيعة إلى الحدّ الذي يغترب فيه المكان عن حقيقة المكان، ليستعير مفهوماً لا نملك إلّا أن نعترف به كحرية. إنه ذلك العنصر الذي لا يعجزه أن يحقق وجوداً عندما يروقه أن يتجسّد، ولكنه لا يتردّد في أن يحقق عَدَماً عندما يتبدّد.

هذه المغامرة الجنونية هو ما نسمّيه في معجمنا حريةً، تماماً كما نسمّي الحضور في واقعنا الحرفيّ وجوداً، بفضل أكثر عناصر الطبيعة غيبيّةً، وهو: الماء!

فالهواء والنار عنصران حاملان للهوية الغيبيّة. بالفطرة، ولكن الماء وحده جمع بين البُعدين الخالدين الغيبيّ والحرفيّ، فاستعار ماهية الركن الرابع وهو التراب، ليستولي على خصال النار والهواء الإغترابية، وها هو يفلح في دقّ الإسفين في لحمة الكينونة الطبيعية برمّتها، لينتزع شقّاً عنيداً هو الصحراء من قبضتها، ليلفّق منه طينةً قرينةً لطينته كفارس يسكن البرزخ الواقع بين هذين البعدين المتخاصمين أبداً: المحجوب والمكشوف، العلوي والسفلي، الغيبيّ والحسّي.

فالصحراء تبدو حسيّة، ولكنها، في مفهوم الطبيعة، مغتربة عن الواقع، لا منتمية، لا مبالية، موسومة بأختام البعد المفقود، بفضل الروح التي لا ترتضي بغير التحديق في سيماء الأبدية سبيلاً، بل لا ترتضي بغير الحضور في حرم الأبدية مصيراً، كأنها تتحدّى، لتبرهن على حقيقتها اللا أرضيّة، برهاناً على الإعجاز الذي اصطفاها من بين كل ما تحت قبّة السماء لتكون الحجّة على وجود حقيقة. وميثولوجيّة هذه الجنيّة هي استعارة للتدليل على ماهية الصحراء كواقع استعاري، رديف للجبل الجليدي، الذي لا يكشف من جرمه سوى العُشر، أمّا الاعشار التسعة الباقية فتحتجب في غمر المياه.

يكفي أنها ترطن بمنطق الحرية، لكي تستدرجنا، بفنون الفتنة، إلى معراج الحقيقة، مستغلّةً سلطة العمق الميثولوجي ترجماناً. فهذه الفسحة السمحة، العارية، التي لم تختر العريّ قدراً إلّا رفضاً لأدغال، رفضاً لحجاب، للتحرر من أغلال، من دنس يسري في شرايين العلاقة، لتعصم نفسها من هذا الدنس، تماماً كما يعصم الحُجّاج أنفسهم من دنس مبثوث في سَمّ الخياط، كلّما حلّوا أضيافاً في بيت الله الحرام.

اختارت الصحراء هذا القدر، استنكاراً لتعاطي الإثم. الإثم السارح في وجدان كل ما متّ بصلة لجناب العلاقة، انتصاراً لمعبودة هي الحرية. ولم تكن لتفلح في حملتها البطولية لو لم تستعن بموجبها في الإحتكام إلى النار لكي تحقّق في نفسها نعيم اليبوسة. لهذا السبب صارت اليبوسة قدس أقداس. صارت اليابسة حرماً في مفهوم كل الأمم. حدث ذلك بفضل الإستغناء عن الغمر، عندما ابتلعت الغمر، لتسكنه جوفها، لكي يكفّ عن إغواء الخليقة، الظامئة دوماً للحجّ إلى بيت الماء. وهو ما لم يكن ليحدث لولا الحريق. لولا تدخّل مارد النار، في حمّى ملحمة الخلاص. في حِمى حمّى القربان، الذي تطرح فيه نفسها ضحيةً لتتمكّن من استبدال الطينة في الأرومة، لتتنصّل من جلدتها كطبيعة، على طريقة أحيَل حيوانات البريّة، كي تستعير حلولاً في البعد الضائع، تستعير حلولاً في الروح. فالروح هو غاية الطبيعة عندما تنوي أن تحقق حرية الأبعاد القصوى، بالإستغناء عن حجّة الوجود الدنيوي، الماء، لتسكن الحرم المنزّه عن الإثم. ولم تكن الصحراء لتكون وطن النبوّة، وطن كل النبوآت، لولا هذا الهوس بالتضحية. ولكن هذا ليس كل شيء في سجل الإعجاز. فحقيقة الصحراء كاستعارة في حقّ الطبيعة، هو ما دفع أهل هذه القارّة لاعتماد الإستعارة كمنطق خطاب.

ومنطق الخطاب، كما نعلم، ليس سوى صيغة وجود.