منذ مفصل أبريل 2003، تاريخ سقوط العراق تحت الاحتلال الأميركي، زادت إيران من خطواتها التوسعية في المنطقة، التي وصلت أوجها بتباه إيراني رسمي بأنها تحتلُّ أربع عواصم عربية.

لم يكن ذلك التباهي مجرد فرقعة كلامية إعلامية، بل كان حقيقة أكدتها وقائع الميادين؛ دَاسَتْ طهران على الخرائط وعلى سيادة الدول في العراق ولبنان واليمن وسوريا، وحولت بغداد وبيروت وصنعاء ودمشق إلى ضروب من المحميات الإيرانية، وتحقق ذلك الدوس عبر طابور خامس في كل دولة من تلك الدول، تجند لخدمة السياسة الإيرانية وتنفيذ أجنداتها، وأيضا من خلال "جهد" إيراني مكشوف تمثل في تسليح الميليشيات والفرق العسكرية وتزويدها بالمال والسلاح والعتاد وبكل ما تحتاج له لتأكيد الهيمنة الإيرانية على المنطقة.

كانت جماعة أنصار الله في اليمن (الحوثيون)، وحزب الله في لبنان، وكتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء وعصائب أهل الحق وغيرهم في العراق، فضلا عن العصابات المتوحشة في الجغرافيا السورية والفلسطينية، مجرد أدوات أتاحت لطهران التدخل في شؤون تلك الدول وتهديد غيرها.

هذا الوضع المتفاقم للعبث الإيراني في المنطقة، الذي يُقابلُ بصمت أو تغاض دولي، أتاح طرح أسئلة تنطلق من تصور سيناريوهات مقابلة لهذه العربدة الإيرانية، من قبيل ماذا لو قامت دول عربية وازنة مثل مصر أو المملكة العربية السعودية أو الإمارات بتنفيذ سياسة مشابهة للسياسة الإيرانية المنتهجة في المنطقة منذ عقود؟

وماذا لو أقدمت تلك الدول، أو واحدة منها، على تسليح ميليشيات داخل التراب الإيراني ودعمتها بالأموال والسلاح والعتاد، وزودتها بمنطلقات دينية ومذهبية مقابلة للمنطلقات الطائفية الشيعية الإيرانية وكلفتها بتنفيذ عمليات داخل إيران من أجل أهداف "مقدسة" أو للدفاع عن معالم دينية سنية تقع داخل إيران؟

ألا يمكن للدول العربية الدفاع عن المنشآت والمعالم الدينية السنية في المحافظات غير الفارسية؟

هل ستعجز الأقطار العربية عن صياغة سردية تاريخية تكذب وتدحض السردية التاريخية الإيرانية الفارسية، وهي سردية يجمع المؤرخون على كونها خادمة للأيديولوجيا الإيرانية منذ لحظة الفتنة الكبرى وصولا إلى الثورة الإيرانية، مرورا بإسماعيل الصفوي الذي حول المذهب الشيعي إلى مذهب رسمي للدولة؟

كيف ستتصرف إيران أولا، والعالم لاحقا، تفاعلا مع تلك السياسة؟

وماذا لو قرأت الدول العربية خارطة توزع الشعوب الإيرانية ومشاغلها وراهنت على مظاهر الاحتقان المجتمعي الإيراني، ودعمت الشعوب العربية في المحافظات الجنوبية والجنوبية الغربية لإيران، من أجل نيل حقوقها المشروعة؟ ألا تكون بذلك قد استجابت لنداءات إنسانية لطالما صدرت من سكان مهاباد والأحواز وزاهدان (عاصمة بلوشستان) وغيرها من المدن والمحافظات غير الفارسية؟ ألا يمكن الرهان على احتجاجات الشعوب الإيرانية، وما أكثرها، ودعمها ماليا وإعلاميا وسياسيا، وإتاحة المنابر الإعلامية أمام قيادات النضال الأحوازي والكردي للتعريف بقضاياهم والحيف الذي يتعرضون له من مظاهر التجويع والتعطيش وتلويث الأنهار ومصادرة الأراضي وغيرها من المظاهر؟ هل ستُفهمُ تلك السياسة على أنها مجرد تعاطف مع نضال تلك الشعوب من أجل رفع الضيم والاضطهاد؟

وماذا لو أقدمت دول عربية على الرهان على إنتاج وصناعة المخدرات وترويجها في أوساط الشباب الإيراني، مثلما تفعل إيران في لبنان وفي سوريا والعراق؟

ألن يكون يسيرا بالنسبة للدول العربية الاتكاء على مافيات إنتاج المخدرات في أفغانستان التي تنتجُ أكثر من 80 بالمئة من تجارة الأفيون والهيروين عالميا، لإغراق المدن الإيرانية بشتى صنوف المخدرات؟

ألن تزيد وقتها نسب إدمان الشباب الإيراني، وهي نسب مرتفعة دون أي تدخل خارجي، بل تعكس إحباطا جماعيا مترتبا عن انعدام الآفاق وقلة الفرص وانتشار الفقر والبطالة؟

ماذا لو فكرت الدول العربية في تسليح جماعات دينية سنية في الأقطار المجاورة لإيران، وفي داخلها لمناوشة المدن الإيرانية بالصواريخ المسيرة والباليستية والإستراتيجية، مثلما تزود إيران الجماعة الحوثية في اليمن؟

ألن تتحول المدن الإيرانية الحدودية إلى مرمى لنيران الصواريخ الطائشة، والتي ستزرع الذعر والخوف حتى وإن لم تحدث أضرار مادية مباشرة؟

لم تُطرح كل هذه الأسئلة من باب التحريض أو من باب الدعوة إلى نقل المعركة إلى الداخل الإيراني، وإنما لتصور أو تخيل سيناريوهات تحاكي السلوك الإيراني المعتمد منذ عقود، ومن ثم قراءة ردود الأفعال الإقليمية والدولية والحقوقية وغيرها من ذلك.

ولا نتصور أن الدول العربية المذكورة عاجزة عن رد "التحية الإيرانية" بأحسن منها، ولكن المانع ليس نابعا من عجز أو قلة حيلة سياسية أو عسكرية أو مالية، بل ينبع من منطلقات مبدئية وأخلاقية تأبى التدخل في شؤون الآخرين، وتحترم الحدود والكيانات السياسية وإن كانت مصطنعة أو مترتبة عن سلوك استعماري واستيطاني على شاكلة الخارطة السياسية الإيرانية التي شُيّدت من أوهام دينية وتاريخية وعصبيات مذهبية حولت التشيع الديني إلى رأسمال سياسي استعمرت به شعوبا كثيرة وهيمنت من خلاله على عواصم كثيرة.

الثابت أن الأقطار العربية المذكورة، وغيرها، لن تُقدم على إتباع السياسة الإيرانية حتى وإن تضررت من مفاعيلها، لا لعجز أو عدم قدرة- كما أسلفنا الذكر- ولكن لوعي نابع من دوافع متداخلة، أولها أن سياسة تلك الدول تقوم على منطلقات متحضرة ليس منها المنطلقات المذهبية، وثانيها أن تلك الدول تعي آثار ومآلات التدخل في شؤون الآخرين، ولا تنهى عن منكر وتأتي بمثله، وثالثها أن قيادات تلك الدول تؤمنُ أشد الإيمان بأن مقاومة التمدد الديني الإيراني لا تحصل بتمدد ديني سني مقابل، لأن ذلك سينتج حربا دينية ستأتي على أخضر المنطقة ويابسها.

على أن التذمر العربي من السلوك الإيراني (الطائفي المذهبي التخريبي) وبقدر ما أصبح يجرّ البعض إلى الدعوة إلى انتهاج سياسة مماثلة للسياسة الإيرانية، فإنه أصبح أيضا يكشف الازدواجية الغربية في التعامل مع إيران، ويعري قصور النظرة اليسارية الغربية للسياسة الإيرانية.

لم ينجح اليسار الغربي إلى حد اليوم في رسم صورة حقيقية للسياسة الإيرانية، ولم يتوصل إلى رؤية التخريب الإيراني الماثل في أكثر من قطر عربي على حقيقته، وليس مفهوما اليوم عدم اقتناع اليسار الغربي بأن إيران بسلوكها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وبعدائها لدول الخليج العربية، ولأغلب الأقطار العربية السنية، أضحت تمثل خطرا حقيقيا (بكل ما تحمله الكلمة من معنى) على استقرار العالم وعلى أمن المنطقة.

إن مجرد تخيل إقدام دول عربية على إتباع السياسة الإيرانية بحذافيرها، من ناحية إنشاء الميليشيات التي تعلو على الدولة وتسليحها وتزيدها بالمال والعتاد، أو لناحية الرهان على انتشار المخدرات، أو من زاوية الاعتماد على إحداث تغيرات ديمغرافية بعيدة المدى مثلما يحصل في دمشق وضواحيها، أو من زاوية إحداث شروخ مذهبية وطائفية داخل المجتمع الواحد، يقرب صورة الأذى المترتب عن هذا السلوك الإيراني الذي لا يعترف بسيادة الدول على مجالها والذي لا يقيمُ بالا لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو من أهم المبادئ التي تحكم العلاقات بين الدول والتي تضمن من خلاله احترامها لسيادة الدول الأخرى وخاصة دول الجوار. ولذلك فإن هذه الأسئلة والسيناريوهات المتخيلة، لا تدّعي التحريض على إيران، بل تحاول الاستفسار عن المدى الذي يجعل الغرب- مثلا- يقتنعُ بوجود بون شاسع بفصل بين دول متحضرة تنتهج التنمية والبناء، وأخرى تنتهج التطرف ودعم الغلو والرهان على إشاعة الانقسام الطائفي.