زيارة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى تركيا، الأربعاء الماضي، أنهت حقبة طويلة من القطيعة التي طبعت العلاقة بين البلديْن.

فجوة بدأت مع إبعاد الإخوان عن الحكم في مصر في العام 2013، وتعمقت مع قضية مقتل جمال خاشقجي في العام 2018، وتخللتها تباينات كثيرة بين البلدين في قراءة إحداثيات المنطقة والعالم، وأبرزها القطيعة العربية مع قطر والتي اصطفت فيها أنقرة جنب الدوحة في خلافها الأخيرة مع أخواتها الخليجيات.

زيارة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى تركيا أسفرت عن بيان تركي سعودي مشترك لخص نظرة البلدين للعلاقة الجديدة، وما يمكنُ التقاطه منذ البداية أن الاقتصاد أصلح ما أفسدته السياسة بين القوتين الإقليميتين. يذكرُ أن أنقرة اندفعت في السنوات الماضية بكل ما أوتيت من قوة إعلامية وسياسية ومادية، نحو معسكر يتمحور حول الجماعة الإخوانية، وضحت في سبيل اصطفافاتها الأيديولوجية بكل علاقاتها الإقليمية، مع مصر ومع دول الخليج، فضلا عن أقطار عربية أخرى.

منذ العام 2011، أي منذ انطلاق ما عرف بالربيع العربي، ساندت أنقرة الفروع الإخوانية في العالم العربي، وتحالفت مع قطر في هذا التوجه، وأثار ذلك حفيظة شعوب وأقطار عربية استشعرت مبكرا الخطر الإخواني على أراضيها، وأدى ذلك إلى قطيعة دامت طويلا بين محور الاعتدال العربي الذي يؤمن بالدولة الوطنية وبقيم الاعتدال والتسامح ولا يرى العلاقات العربية خارج تلك القواعد السياسية، وبين محور آخر راهن على الجماعات الإخوانية وقطع حبل الود مع دول المنطقة في سبيل ذلك.

لكن منطلق العودة التركية إلى صوابها الدبلوماسي كان ناتجا عن وقع الكلفة المترتبة عن القطيعة: كلفة اقتصادية باهظة، وكلفة سياسية ودبلوماسية أدت إلى عزلة تركيا عن محيطها الإقليمي والدولي، قوّضت كل منجزات مرحلة "تصفير المشاكل" التي تبنتها أنقرة منذ عقدين (تقوم على مبادئ أربعة هي عدم تجزئة الأمن، والتحاور، والتضامن الاقتصادي، والتوافق الثقافي والاحترام المتبادل).

تاهت سياسة تصفير المشاكل في دروب الميل التركي لجماعة الإخوان، واستشعرت تركيا أن إصلاح وضعها الاقتصادي والسياسي يبدأ أولا من محيطها العربي الإسلامي، وعندها توفرت كل أسباب ومقومات العودة إلى الإقليم، وكان لازما طرق أبواب الدول الكبرى في المنطقة، فبدأ الأمر بمساع تركية تجاه المملكة العربية السعودية، توجتها زيارة أردوغان إلى جدة في 28 أبريل 2022 التقى خلالها العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، وهي زيارة اعتبر أردوغان وقتها أنها "ستفتح الأبواب أمام عهد جديد مع المملكة الصديقة والشقيقة".

أزمات كثيرة تضافرت وحتمت العودة التركية إلى رشدها الدبلوماسي وإلى محيطها العربي الإسلامي. تداخلت أبعاد الأزمة الاقتصادية في تركيا (تراجع الليرة وارتفاع معدلات التضخم)، مع أزمة سياسية موسومة بتصاعد المعارضة لخيارات أردوغان وفريقه، مع عزلة أنقرة عن الإقليم والعالم، إضافة إلى الاستحقاق الانتخابي المقبل منتصف العام 2023، لتدفع أردوغان إلى إحداث تغيير في طرق إمساكه بمجاديف السفينة التركية. كان الرئيس التركي واعيا بتداخل كل هذه الملفات، بدءا من دعمه للإخوان المسلمين، وصولا إلى تصاعد أصوات المعارضة، مرورا بأثر تهاوي الليرة وارتفاع نسب التضخم، ولذلك فهم جيدا أن أولى مداخل الفكاك من الأزمة هو طرق الأبواب العربية والخليجية. أكد أردوغان وعيه بأن مخارج أزمته توجد فقط في الخليج بالقول عند عودته من قمة المصالحة في جدة "هناك تطورات إيجابية للغاية مع منطقة الخليج، وزيارتي إلى السعودية أخيرا ستشكل مخرجا مهما.. وواثق أن زيارات أشقائنا السعوديين إلى تركيا ستزداد بشكل أكبر".

في مقابل الحرص الرسمي التركي على إصلاح العلاقات مع المملكة والإمارات ومصر، واعتبار ذلك مقدمة لازمة لإصلاح أزمات الداخل، يوجد وعي خليجي رصين بأن أزمات الماضي لا يمكنها أن تلغي فرص المستقبل، وأن الواقعية السياسية تقتضي أن لا نقطع حبال الودّ إن كانت تؤدي إلى منافع مشتركة. تعي السعودية أيضا أن التعامل مع "دولة" يظل دائما أفضل وأكثر يسرا من التعامل مع "جماعة". التعامل مع دولة مهما كان حجم التباين في المواقف أو في قراءة الأحداث يظل محكوما بإيجاد مساحات مشتركة تُذلل فيها العقبات والحواجز، أما التعامل مع الجماعات المارقة فإنه يبقى مستحيلا تبعا لأن الدولة تعيش في زمن القانون والمؤسسات، بينما تركن الجماعات إلى أزمان غابرة لا مكان فيها إلا للأفكار المتطرفة والأحكام القطعية. قدرت دول الخليج أن فك أنقرة لارتباطها مع جماعات الإخوان والكف عن دعمها ماليا وإعلاميا، هو منطلق كاف لمد جسور تعاون تتحقق فيها مصالح كل الأطراف. وفي فك الارتباط بين تركيا والإخوان منفعة لكل دول المنطقة، فهي أولا تعيد تركيا إلى تعريفها كدولة طبيعية تحترم الشؤون الداخلية لغيرها، ولا تستبيح التدخل بتعلات مساندة الإخوان، وهي ثانيا تعزل الإخوان وتحرمهم من دعم أتاح لهم العربدة والتآمر والتعالي على كل دول المنطقة.

فهمت أنقرة الرسالة العربية، بعد تمثلها لحجم أزمتها، وبعد تبينها لحقيقة مفادها أن الرهان على جماعات وعصابات لا ترى غير السلطة هدفا، هو رهان فاشل، فبادرت بناء على ذلك إلى غلق الدكاكين الإخوانية على أراضيها وأبعدت شخصيات وقيادات عرفت بنفخها الدائم في نيران الفتن، ولم تكتف بذلك بل مدت جسور التواصل نحو الدول العربية (مصر والسعودية والإمارات).

يجدر الإشارة أيضا إلى أن هذه الحركية الدبلوماسية بين السعودية وتركيا، تحدث في سياق متكامل من السعي العربي نحو إذابة الجليد الذي طبع العلاقات طيلة عقد كامل. وفي هذا الصدد أعلنت مصادر إعلامية قطرية ومصرية، الخميس، أن أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني سيبدأ الجمعة، زيارة إلى مصر هي الأولى منذ العام 2015. وهي زيارة شددت نفس المصادر المشار إليها إلى أنها "تستهدف التطبيع الكامل للعلاقات، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات اقتصادية وضخ استثمارات قطرية بمصر، خاصة في مجال الطاقة".

ما يمكن استنتاجه من هذه الحركية الدبلوماسية العربية - العربية والعربية - التركية، هو أنها كانت محكومة بدوافع اقتصادية وتنموية، وذلك ليس عيبا بل هو أمر محمود في عالم السياسة. وهذا البعد يؤكد أمرين اثنين. الأول يتلخص في أن الواقعية السياسية التي تهدفُ إلى بحث أي إمكانية لتحقيق المصالح المشتركة، انتصرت على الأوهام الأيديولوجية وعلى سراب الخلافة وتدمير المجتمعات. الأمر الثاني أن هذه الحركية عرت بشكل غير مسبوق عجز الإسلاميين عن إنتاج علاقات سوية مع غيرهم، فضلا عن عجزهم عن بناء اقتصادات قوية منتجة، ولعل عودة قطر وتركيا إلى المحيط العربي ستحرم الإخوان وأشباههم من كل أنواع الدعم والإسناد الذي تمتعوا به منذ سنوات، فضلا عن أن هذه المصالحات أكدت صواب المقاربات السعودية والإماراتية والمصرية التي دأبت على القول إن الإخوان قوى هدم لا قوى بناء، وما عودة تركيا إلى الخليج العربي سوى قرينة دامغة على ذلك.

في المصالحة السعودية التركية، لم تنتصر السعودية ولم تنهزم تركيا، بل انتصرت الواقعية السياسية التواقة لخير الشعوب والباحثة عن تحسين عيش المواطنين. انتصرت الشعوب في المصافحات الأخيرة وسقطت أوهام المؤدلجين الإسلاميين الذين لم يثبتوا نجاحهم سوى في تخريب علاقات دول المنطقة.