الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا وسوريا، يوم 6 فبراير الجاري، وخلف عددا هائلا من الضحايا

وبقدر ما أثار تعاطفا عالميا واسعا مع ضحاياه في البلدين، فقد كشف أيضا مسألة متشابكة وغاية في التعقيد، وهي تلك المتصلة بالمساعدات الإنسانية الموجهة للبلدين، والتي لوحظ أنها كانت مشوبة أولا بتباين في الاهتمام الدولي بين تركيا وسوريا، وثانيا أنها خضعت لتأثيرات الوضع السياسي في سوريا وهو وضع موسوم بانقسام البلد إلى مناطق تحت سيطرة النظام وأخرى تحت سيطرة المعارضة، فضلا عن تأثر وصول المساعدات بالعقوبات الدولية المسلطة على سوريا وغلق المعابر.

لم تسلمْ المساعدات الإنسانية الدولية يوما من التسييس، سواء بتأثرها بأوضاع البلد المنكوب، أو بخضوعها لحسابات الجهة التي تسعى إلى تقديم المساعدة. ولم تكن النقاشات والاتهامات المتبادلة حول المساعدات الموجهة إلى سوريا، سابقة في تاريخ المساعدات الدولية في العالم، حيث شهدنا ذلك في أمثلة سابقة كثيرة مثل فنزويلا وباكستان وكوريا الشمالية واليمن وغيرها من الأقطار التي عاشت أحداثا احتاج فيها الناس إلى مساعدات عاجلة.

وغالبًا ما يتم تقديم المساعدات الإنسانية من قبل المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية مثل منظمة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والتي تسعى جاهدة للحفاظ على الحياد والاستقلال عن التأثير السياسي. ومع ذلك ليس من الممكن دائمًا فصل السياسة تمامًا عن المساعدات الإنسانية، حيث يمكن أن يتأثر تقديم المساعدة بالاعتبارات السياسية، مثل المخاوف الأمنية أو الحاجة إلى الوصول إلى السكان المتضررين.

كان ذلك واضحا في الأيام الأخيرة، خاصة في سوريا، عندما عبرت دول ومنظمات إقليمية ودولية كثيرة عن استعدادها لتقديم المساعدات الضرورية لضحايا الزلزال، لكن ذلك اصطدم بعقبتين، الأولى هي حسابات بعض الجهات والدول المقدمة للمساعدات، والثانية هي انقسام الخارطة السياسية في سوريا بين مناطق تحت سيطرة النظام، وأخرى تحت سيطرة المعارضة، ما أثر على وصول المساعدات وتوزيعها. وفي هذا الصدد قالت لينا الخطيب مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد تشاتام هاوس البريطاني (المعهد الملكي للشؤون الدولية)، في تحليل نشره المعهد إن الكارثة الطبيعية أبرزت الانقسامات العميقة بين النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد وحلفائه من جهة، وبين المعارضة السورية وداعميها الدوليين من جهة أخرى، فضلا عن عجز الأمم المتحدة.

واعتبرت لينا الخطيب أن "الزلزال عزز بالفعل خطوط الانقسام السياسي القائمة، خاصة وأن دمشق تحاول استغلال الكارثة الإنسانية للخروج من عزلتها الدولية". لكن هذا الانقسام السياسي الحاد لا يمنع من ضرورة إيصال المساعدات إلى مستحقيها من المتضررين من الكارثة الطبيعية. وهو ما يطرحُ إشكالا عميقا حول كيفية الخروج من أسر الأوضاع السياسية العميقة المترسبة، وإيلاء مسألة إنقاذ الأرواح وإسعاف الجرحى الأولوية القصوى.
يشير هذا الموقف، وغيره من المواقف الصادرة عن منظمات أممية حقوقية دولية، إلى تباين صارخ بين الحاجة الملحة لتقديم المساعدات في أسرع وقت، وبين الصعوبات التي تصنعها إحداثيات الوضع السياسي في بلد مثقل بالحرب والإرهاب والتطرف مثل سوريا.

ومثلما تمثلُ الخارطة السياسية في سوريا حقل ألغام للعمل الإنساني، فإن تعامل بعض الدول الغربية مع مسألة توجيه المساعدات يمثل أيضا نوعا من الانتقائية التي تعبر عن تسييس مفرط للمساعدات. ولذلك يمكن تلخيص المشهد السوري بعد أيام قليلة من الزلزال بأنه موسوم بوجود معبر واحد تدخل منه المساعدات إلى البلاد، وهو معبر باب الهوى، ويجب أن تمر المساعدات نحو حلب، المتضررة بشدة من الزلزال، من مناطق تحت سيطرة المعارضة المتطرفة التي لا ترى ضيرا في الاستحواذ على المساعدات أو عرقلة طريق وصولها، كما تزيد الجيوب التي تسيطر عليها قوات ما تبقى من تنظيم داعش، من المخاطر الكامنة في أي عملية إغاثة، ولم يغير فتح معابر ثلاثة جديدة على الحدود السورية التركية، في الأيام الأخيرة، من الوضع الذي يعيشه ضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا. وكل هذه العقبات تزداد استفحالا في ظل وجود عقوبات دولية على سوريا، وهو ما يعسرُ عمل المنظمات الدولية الإنسانية ويجعلها في مرمى نيران الحسابات السياسية.

ولتقليل تأثير السياسة على المساعدات الإنسانية، قد تتخذ المنظمات الإنسانية عددًا من الخطوات مثل:

  • الحفاظ على الحياد الصارم: حيث يجب أن تتجنب المنظمات الإنسانية الانحياز إلى أي طرف في النزاعات وأن تتأكدَ التأكد من توزيع المساعدات على أساس الحاجة وليس على أساس الاعتبارات السياسية.
  • بناء شراكات مع المنظمات المحلية: يمكن أن يساعد العمل مع المنظمات المحلية في ضمان تقديم المساعدة بفعالية وكفاءة، ويمكن أن يساعد أيضًا في تقليل التأثير السياسي الذي قد تمارسه المجموعات الخارجية.
  • وضع مبادئ وإرشادات واضحة: يجب أن يكون لدى المنظمات الإنسانية سياسات وإرشادات واضحة لضمان أن عملياتها الإنسانية تسترشد بمبادئ الحياد والاستقلال والحياد.
  • التحلي بالشفافية بشأن مصادر التمويل: يجب أن تكون المنظمات شفافة بشأن مصادر تمويلها، وان تتجنبَ قبول التمويل من المصادر التي يمكن أن تُعرض استقلاليتها أو حيادها للخطر.

ومع ذلك، فمن الناحية العملية، قد يكون تقديم المساعدة الإنسانية المحايدة وغير السياسية أمرا صعبا، حيث غالبًا ما يتأثر تقديم المساعدة باعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية أوسع. ومع ذلك، ومن خلال الحفاظ على الحياد، وبناء الشراكات مع المنظمات المحلية، ووضع مبادئ وإرشادات واضحة، والشفافية بشأن مصادر التمويل، يمكن للمنظمات الإنسانية أن تسعى جاهدة لتقليل تأثير السياسة على عملياتها.

الثابت أن التأثير السياسي مازال يؤثر بقوة على جهود عمليات الإغاثة وعلى توزيع المساعدات، ويمكنُ تبين هذه الحقيقة من خلال تصريحات أدلى بها فاعلون في الجهد الإنساني الدولي، حيث أكدت مسؤولة العلاقات الخارجية في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، دومينيك هايد، على أن السياسة يجب أن تبقى بعيدة عن جهود الإغاثة والإنقاذ في سوريا، مثلما ناشد نائبُ رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر جيل كاربونييه كل الأطراف الدولية بتقديم المساعدات الطارئة إلى سوريا، داعيا إلى عدم تسييس ملف المساعدات الدولية.

ولاشك أن الفصل بين المعايير الإنسانية، والحسابات السياسية أمر ضروري وملح في الحالة السورية، كما في غيرها من الحالات، حيث أن الموقف السياسي والعقوبات الدولية ودعم بعض الأطراف السياسية على حساب البعض الآخر، هي إجراءات تحتملُ التأجيل، ولا يجبُ أن تتقدمَ على ضرورات إنقاذ ودعم المتضررين من الزلزال.

كان الزلزال الأخير في تركيا وسوريا مناسبة جديدة وقف فيها العالم، على حقيقة مفادها أن المساعدات الإنسانية لم تنجُ من حسابات السياسة، ولم تخلُ من المعايير المزدوجة، وتأثرت بكل الهنات والشوائب التي يعرفها العمل الحقوقي الدولي منذ عقود. ولذلك فإن تخليص هذا الجهد الإنساني الدولي من لوثة السياسية يحتاج عملا كبيرا، ويتطلبُ تقييما جذريا ومراجعة عميقة للمعايير الحقوقية وللالتزامات الدولية في هذا الشأن. السوري العالق تحت الأنقاض والمشرد في العراء هو ضحية الزلزال وضحية تأخر المساعدات المسيّسة في آن واحد.