يا لها من كارثة حلت بالعراق! المطرب المصري محمد رمضان يغني في حفلة خاصة في بغداد ويفتح قميصه ليبدو بعض صدره عاريا!!

كانت صدمة كبيرة في عراق المقدسات والفضائل، اهتزت لها الشوارب واللحى، واقشعرت لها الأبدان، وشاب لها الولدان، ووقف بسببها شعر الرؤوس، وزاغت بها الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وانتفض من أجلها المحافظون والمتدينون والمتشدقون بالدين والفضلاء والمفضولون والراشدون والصبيان!

لم تكن مجرد حركة طبيعية مارسها مطرب معروف بهذا النمط من الأداء في حفلة خاصة، لم يحضرها سوى المعجبين، الذين دفعوا غاليا ثمن بطاقات الدخول. لا أبدا. لقد كانت إهانة مقصودة لحرائر العراق وأحراره، واستهانة متعمدة بقيم العراق المتجذرة في أعماق ساسته الأتقياء الأفاضل. نعم، كانت هزة أرضية في بلد كان يرفل بالأمن والاستقرار والهناء، لكنها يا ويلاه حدثت، وأحرقت الأخضر واليابس وحولت السعادة بؤسا وتعاسة، والاحتفالات مآتم ومجالس عزاء!

لم يكن غالبية العراقيين قد سمعوا بمحمد رمضان قبل تلك الحفلة المشؤومة، التي ستكون دون شك علامة فارقة وانطلاقة فائقة في حياته الفنية، فقد أصبح بعدها علما فوقه نارُ، ولم يبقَ أحد لم يبدِ رأيا في تلك الحفلة، بل لم ينشغل العراقيون بكل توجهاتهم بقضية مثلها منذ حادثة (أبو طبر) سيء الصيت في السبعينيات، وقد بدا البلد وكأنه لا مشكلة فيه سوى قميص رمضان عديم الأزرار!

القوى السياسية المتشدقة بالدين نظمت مسيرات احتجاجية نسوية احتشدت أمام مؤسسة "سندباد لاند" الفنية التي نظمت حفل رمضان، منددة بإسرائيل والولايات المتحدة، التي يبدو أن لها ضلعا في ترتيب حفلة محمد رمضان في بغداد بقصد إفساد المجتمع العراقي ثم السيطرة على ثرواته الهائلة التي يرفل بها أبناؤه حاليا، فلا فقر ولا شقاء، ولا مواطنين في العراء، بل ثراء ورخاء، وحدائق غنَّاء، وكهرباء وماء في أرض النماء والصفاء!

أحد الخطباء الذي عُرف سابقا بقدر من العقلانية والواقعية، لكنه غادرها كليا على ما يبدو، إذ فَقَدَ أعصابَه وجُن جنونُه بعد أن رأى قميص رمضان المفتوح أثناء أدائه الغنائي، فأمطره بأقذع الشتائم، وأطلق عليه أوصافا عنصرية لا تليق بأي شخص يعيش في هذا العصر، ناهيك عن رجل دين يعتمر عمامة عملاقة ناصعة البياض، ولكن لكل مقام مقال، فهول المصيبة يخرج الإنسان عن طوره أحيانا! والأغرب أن الشيخ الجليل أصر على صواب أقواله الغاضبة ورفض الاعتذار عن تلك الأوصاف المشينة، التي دفعت معظم الناس إلى التعاطف مع الفنان محمد رمضان.

أما مترجمو الأخبار ومذيعوها ومقدمو البرامج ومديروها ومراسلو الصحف ومحرروها والكتاب والمعلقون والمحللون فلم يبخلوا بآرائهم المنتقدة لرمضان الذي انتهك حرمة وطهارة العراق، الذي لم تدنسه أي رذيلة، من قبيل خطف النساء وقتل الأبرياء وسرقة المال العام وتزوير الشهادات واستغلال المناصب وتعيين الأقارب وقصف السفارات وتهديد الأجانب.

كلا، إنه بلد يخلو من أي رذيلة تدنِّس أرضه، فلم يُخرَق فيه أحد القانون يوما، خصوصا السياسيين والمسؤولين، فهؤلاء شرفاء أعفّةٌ زاهدون بالدنيا وملذاتها ولا يبتغون سوى مرضاة الله سبحانه وتعالى، أما ما يقال عن أعمال القتل والخطف والاغتيال التي تطال الشباب والنساء والصحفيين والأكاديميين وأصحاب الرأي، فهي مجرد أكاذيب تروج لها أمريكا وصنيعتها، الصهيونية العالمية، وباقي قوى الشر التي تريد تشويه صورة المجاهدين الناصعة وأتباع الولي الفقيه الأوفياء الأتقياء!

وأطرف ما هذه الملحمة الأخلاقية أن أحد قادة البلد النزهاء جدا والأبرياء جدا، والزاهدين بالمال والسلطة، أين منه نلسن مانديلا في النزاهة والوطنية والترفع عن المناصب، ممن لم يسرقوا قرشا من المال العام، ولم يقربوا الأصهار وأولاد العم، ولم يحرضوا على الطائفية أو يقسموا العراقيين إلى معسكرين، معسكر يزيد ومعسكر الحسين، ولم يشُب حكمه أيُّ شائبة سوى أحداث طفيفة خفيفة مثل سقوط ثلاث محافظات بأيدي داعش ومقتل بضعة آلاف من العراقيين في أحداث اغتيال وتفجير وخطف، وضياع بضع مئات من مليارات الدولارات، في ممارسات فاسدة مفضوحة، قد تصدى بقوة للمارق محمد رمضان ودافع عن الدين والأخلاق والشرف، وكان مقنعا جدا في دفاعه باعتبار أن صدقيته لا يشك فيها منصف! صحيح أن حديثه تناقله العراقيون باعتباره مزحة، لأنه يناقض كل ما يعرفونه عنه من مزايا نادرة، لكن هؤلاء ضالون ظالمون سامحهم الله.

أما المدافعون عن محمد رمضان، وهم كثرٌ وأيم الحق، فهؤلاء يبتدئون دفاعهم عنه بمهاجمته ووصم فنه بالهابط وغير اللائق، وبعضهم يقول إنه ليس فنانا ولا مطربا بل مهرج، لكنهم مع ذلك ينصفون المعجبين به ويعطونهم الحق في أن يحضروا الحفلات التي تقدم هذا الفن (الهابط) الذي يمارسه رمضان! كما يستغربون دعوته لإحياء الحفلات في العراق، "بينما يحظره بلده" حسب قولهم! والحقيقة أن محمد رمضان فنان محبوب في مصر، ومازال يمارس التمثيل والغناء دون عوائق، سوى حسد المنافسين.

وحسب هذه النظرية الوجيهة، ما كان على الكويت أن تستضيف المطرب العراقي الراحل فؤاد سالم لأنه كان محظورا من الغناء في بلده! وما كان على لبنان أن يستضيف الشاعر مظفر النواب لأنه قصائده كانت محظورة في بلده! بل وما كان على سويسرا أن تستقبل الممثل الكوميدي العالمي الشهير، تشارلي تشابلين، بعد أن حظرته الولايات المتحدة إثر تعاطفه مع اليسار!

بعد هذه المقدمة الضرورية، لابد من القول إن المجتمع العراقي يتعرض منذ عقود إلى حملات تضليل وتشويه للحقائق لا مثيل لها من حيث حجم الخداع والكذب والتلفيق والافتراء، ولا شك أن هذه الحملات ليست عشوائية أو عفوية، بل منظمة وتقف وراءها جهات مشبوهة، هدفها إثارة الانقسام والنعرات الدينية والطائفية والقومية والعنصرية والمناطقية، من أجل أن يبقى المجتمع والدولة ضعيفيْن.  

وهذه الحملات دائما تتخذ من الدين والشرف والأخلاق عنوانا لها كي تتمكن من خداع المؤمنين البسطاء الطيبين الذين يتوهمون بأنها حملات بريئة من أجل صيانة الدين والشرف والأخلاق، بينما هي في الحقيقة تستهدف تماسك المجتمع وتسعى لتخريبه وجعله متخلفا، كي يستمر في قيادته وتوجيهه فلان وعلّان، ويبقى تابعا لدولة أخرى تناصبه العداء منذ قرون.

كما أن مروجي هذه الحملات، من السياسيين الذين يتشدقون بالالتزام بالقانون والدستور، يتجاهلون تماما دور القانون. فالدولة الحديثة تلتزم القانون فحسب، وليس النظريات الأخلاقية المتعددة، والقانون العراقي لا يمنع إقامة حفلات غنائية أو مهرجانات فنية، حتى الآن على الأقل، ولكن من يدري، فالأيام حبلى بما لم يستطعْه الأوائلُ.

يتوهم بعض البسطاء بأن المجتمعات الحديثة يمكن أن تبقى (نقية) ومنيعة بوجه (الفساد الأخلاقي)، ويوغلون في الوهم عندما يصدقون بأنها يمكن أن تتوحد في أخلاقها وأذواقها وسلوكياتها ورغباتها وتوجهاتها حسب رغبات ونزوات من نصَّبوا أنفسهم أولياء على الناس. المجتمعات الحديثة متنوعة بطبيعتها، وهذه من مزايا المجتمعات الصناعية، التي تختلف اختلافا جذريا عن المجتمعات الزراعية والرعوية السابقة، ذات الثقافة الأحادية، التي عادة ما يشكلها قادتها المُطاعون.

هؤلاء الذين يحاربون التنوع إنما يحاربون أنفسهم من حيث لا يعلمون، ويقضون على وجودهم هم، وليس على التنوع، لأن الوحدة الدينية والطائفية والأخلاقية والسلوكية والثقافية التي ينشدونها هي ابتداءً عبثية، لأنها لا تخدم هدفا محددا، بل تقود إلى مفاسد أكبر وأخطر، لأنها تؤدي إلى الاحتراب بين فئات المجتمع، وتقود في النهاية إلى انتصار قوى التطور والعقلانية على قوى التخلف والمحافظة، أي أنها تُسرِّع من نهاية المتمسكين بالعادات البالية، خصوصا وأنهم هم من بدأ المعركة على التطور. العالم يتطور باستمرار، وإن حصل تراجع هنا أو ردة هناك، فإن التطور الحتمي للحياة سوف يكتسحهما بمرور الزمن ويلقيهما في غياهب الماضي.

كما أن مثل هذه الحملات التي تسعى لفرض توجهات أو (أخلاق) فئة معينة على الجميع بالقوة والابتزاز والإرهاب، إن نجحت مؤقتا، فإنها تقود إلى انتشار النفاق والغش والدجل والكذب، فأفراد المجتمعات المقهورة عادة ما يلجأون إلى هذه الصفات الذميمة التي لا تقرها الأخلاق الرفيعة ولا الأديان السماوية السمحاء، بالإضافة إلى كونها ضارة، لأن الجميع سينشغل بخداع الآخر وتضليله، ولن يتمكن أحد من معرفة الحقيقة إن كان أفراد المجتمع خائفين من قولها أو ممارستها علنا.

كذلك فإنها غير قابلة للتحقيق، فالتنوع هو الصفة السائدة في المجتمعات البشرية الحديثة، وهذه ليست مجرد رغبة يسعى الناس لتحقيقها، بل صيرورة طبيعية ونتيجة حتمية لمسيرة الحياة العصرية، وسوف تحصل شاء المحافظون أم أبوا. أما المجتمع ذو الصبغة الواحدة والثقافة الواحدة، إن وجد، فهو مجتمع بدائي ومتخلف، ودليل تخلفه هو تجمده في الماضي وعدم قدرته على التعلم واستيعاب علوم ومعارف وتجارب العصر.

المضحك المبكي في ملحمة رمضان العراقية هو أن معظم أبطالها بعيدون عن الشرف والأخلاق والدين الحقيقي، فالسارق والمخادع والكذاب والطائفي بعيدون عن الإيمان والقيم الحميدة، وهم يعرفون ذلك جيدا، لكنهم وجدوا في هذا القضية فرصة لادعاء الشرف والولاء لله والرسول وأهل البيت، على أمل أن يخدعوا المساكين والسذج. ولكن، ولحسن حظ العراق، فقد أصبحوا مزحة تضاف إلى المهازل التي تترى على العراق منذ عقود.

نعم، هناك ضوء في نهاية النفق، وهو أن شباب العراق واعون ونابهون ومتيقظون، لا تنطلي عليهم هذه الخدع الرخيصة والأساليب المستهلكة التي تعادي الحياة والسعادة. شباب العراق يبتغون مجتمعا عصريا حرا منفتحا متنوعا، ولا شك بأنهم سيقيمونه رغم أنوف المتخلفين، وسوف يزيحون هذه الغمة عن هذه الامة.