(كلمة المؤلّف، كمتحدّث رئيسي في جلسة افتتاح المؤتمر الخامس للمجلس العربي للعلوم الإجتماعية، المنعقد بالدار البيضاء. المغرب في 2 ديسمبر 2021). *** «لقد أهديتني، العافية، يا إلهي، وبدل أن أسخّرها لخدمتك، أضعتُها في الباطل». «بليز باسكال»

الثورة وفيّة لمنطق الحرف، الذي أُنتدبت إليه، بمشيئة اللغة، مستغلّةً جهلنا بحكمة اللغة. لأننا الأمّة التي يروقها أن تتغنَّى بخطاب اللغة، ولكنها تغترب عن فردوس اللغة، لعدم الاعتراف بالوجود كحجّة لغة، كحبكة ملفّقة من مفردات اللغة.

فهي، بمنطق الوجود، مفهوم خطر، خطورة لم تبخل بها اللغة. فهي لا تَعِدُ، في المفردة، لا بالخلاص، ولا بالحرية، ولا بالعدالة، ولا بأيّ بناء، ولكنها تحيا بأنفاس الدهاة الأوائل، الذي سنّوا ناموس اللغة، بدليل انتماء الثورة لطبيعة وحشٍ أهوج هو: «الثور» الذي لا يتردّد في أن يدمّر كل ما يعترض سبيله، كلّما انطلق من معقلٍ أو عقال. وهي الرديف الشرعي للفورة، كإبدالٍ شائع بين الفاء والثاء. أمّا في اليونانية فإن كلمة  επανάσταση، (epanastasi) ، فتعني بدئيّاً «غياب الاستقرار»، أي: هيمنة الفوضى. فماذا يمكن أن يعني اغتراب الإستقرار في واقعٍ يعتنق دين العقد الاجتماعي؟

غياب الاستقرار هنا سيعني غياب النموّ. غياب النموّ في بُعده الطبيعي. النموّ التدريجي، والحثيث في سيرورة التقدّم إلى الأمام. أي أنه استثمارٌ حكيمٌ لتميمةٍ لا نعلم قيمتها إلّا عندما نفقدها، كما الحال مع السِّلْم. فالحضور في ملكوت السّلم هو ما أوتي معجزة التحوّل الدؤوب إلى الأفضل، أي الارتقاء لتحقيق ما خلعنا عليه لقباً جليلاً في أدبيّاتنا وهو: التطوّر! التطوّر الذي تعاديه فلسفة الثورة بالسليقة. تعاديه في منطقها اللاتيني: revolution  الدالّ على ما سيكشف عن فضيحة، لأن المفردة ما هي إلّا نفيٌ متعمَّدٌ لـ evolution المعبّرة عن التطوّر.

مثيرٌ للفضول أن نكتشف أن الجذر في كلمة  evolution  هو vol الدالّة في اللغات الجرمانية على: «الإمتلاء»، كما في voll الألمانيّة، بإضافة لام أخرى، أو full في شقيقتها الانجليزية. كما تعني vol في الليبية القديمة، واللغات البربرية المنبثقة عنها، «فوق»، أي احتلال مكانة في الذروة، أي السيرورة إلى أعلى، أي السموّ، تعبيراً عن طبيعة أي امتلاء، يفيض إلى أعلى كلّما ضاق به القمقم. وهو ما يعني أن التطوّر، في المفهوم البدئي، نتاج حركة محمومة لقطع مسافة في مسير صعود نحو الكمال. نحو التطوّر. التطوّر الذي تعاديه الثورة في المصطلح اللاتيني، المعتمد في اللغات الأوروبية بـ evolution ، إنكاراً للإنخراط في انطلاقة الصعود إلى أعلى، لأن التطوّر في المفهوم تطاولٌ، تعالٍ، إرتقاء مداراتٍ أسمى، بدليل أن كلمه «طور» المستعارة من تطوّر يعني في العربية «الجبل»، بوصف الجبل آخر مستوى تستطيع أن تجود به اليابسة في توقها لارتياد فضاء.

وهو ما سيعني أن الثورة حرفياً احتفاءٌ بـ ردّة. قبول بالإرتداد إلى الوراء. أي أنها تعتنق دين الرجعية حرفياً. هذه الرجعية التي تتشدّق بالعداء لها، وتنصّبها في معجمها كباطل أباطيل. ويبدو أن الإخفاق لم يكن ليبقى قدر الثورات إلّا بسبب الطبيعة الغيبيّة للغة، كترجمانٍ أمين لطلسم له سلطة الفعل، مبرهناً بذلك على حقيقة القِران الميتافيزيائي بين اللغة والوجود. ومن قبيل العبث أن تحاول أجيال الحواة أن تسوّق المفهوم، مفهوم الثورة، في واقعنا، كحجّة للقيام ببطولاتٍ لم تُنتدب لها الثورة  بسلطان الوجود. فهي، في حلفها المشئوم مع الأيديولوجيات، استطاعت أن تطيح، في أمدٍ قصير، لا بمشروع النهضة وحسب، ولكنها، في حمّى شغفها بالردّة، أطاحت بالدولة الوطنيّة، أيضاً؛ ليس هذا وحسب، ولكنها أطاحت بالدولة نفسها، لتطيح تالياً بالوطن أيضاً!

حدث هذا كلّة بدعوى تلبية نداء مقدّس هو: التغيير!

   كلمة «تغيير» في العربية تعبّر عن عدوان، لأن التغيير، كمفهوم، هو إنكارٌ لواقع قائم، لاستبداله بواقع مفترض، وأن يكون الواقع مفترضاً لا يعني بالضرورة أن يكون واقعاً نافذاً. فالافتراض هنا هو ما يخذلنا، لأننا لا نعوّل عليه كحقيقة محتملة، ولكن كحقيقة واقعة. وخطيئتنا أننا نعامل اللغة كخطاب، ترجمانٌ ننتدبه ليكون لنا في أدغال المفاهيم دليلاً، وننسى أننا معجونون من الطينة ذاتها التي لفّقت طينة اللغة، ننسى أننا لسنا سوى صنيع لغة، ولا نتكلّم نحن اللغة، ولكن اللغة هي التي تتكلّمنا، كما يقول مارتن هايديغر. لنتساءل عمّا إذا كان من حقنا إحداث ما نسمّيه تغييراً في أيّ واقعٍ وجوديّ، في وضعٍ نحن فيه بالهوية أضياف دون الحصول على تفويضٍ مسبق، من حضرة مستضيفٍ هو بالهوية صاحب شأن. فنحن مَن خان اللغة وليس اللغة هي مَن خاننا.

التغيير الذي برهنت التجربة الإنسانية على حقيقته كتجديف في حقّ الربوبيّة نفسها، بسبب اعتناقه لدين دمويّ هو: العنف، في وقتٍ يطرح فيه الواقع الاجتماعي، المعادي، لهذا الإثم المدعو عُنفاً، نموذجاً آخر مغايراً لمفهوم  التغيير، كما هو واقع الأنظمة السياسية في الجزيرة العربية، التي استجارت في تجربتها بذلك الاستقرار، الرديف لمبدأ جليل كالسِّلْم، الذي لن يعترف في سعيه بالوقفة في منتصف الطريق، لأنه ليس قبولاً بسكون، ليس عجزاً عن مواصلة سفر، ليس استسلاماً لواقع بدافع وهَنٍ، وإلّا تحوّل ردّةً مهينة إلى الوراء، لأن التقاط الأنفاس ليس دليلاً على تخلّف عن ركب، بل هو تسليمٌ للزمام لجناب السِّلْم، سِلمٌ أبدعَ أعجوبة تنمويّة جريئة، حمت الأوطان من شرور تغييرٍ يأتى بنزيف العنف، مستعينةً بحصانةٍ أخرى، هي غياب السعار الأيديولوجي المقنّع باحتكار الحقيقة؛ لأن هنا فقط لا يستطيع مغامر متطفّل أن ينادي بوجوب الإطاحة بهذا النظام أو ذاك، بحجّة غياب الحقنة الكافية من عُقار العروبة، أو يجاهر آخر بالنداء، الدّاعي، لمحو هذا النظام أو ذاك بدعوى غياب الجرعة اللازمة من الإيمان بالإسلام ديناً، لأن الواقع هنا يسفّه هؤلاء، لأنه هو المعني بالحجّتين المعنيّتين، بوصفه مهبط الحجّتين.

فالتغيير دوماً هو المغامرة التي تطرح التحدّي، الذي لن نضمن ألّا تستدرجنا فيه الأيديولوجيا الواعدة بفتنة هي منزلة الأبعاد القصوى، فنقبل باستبدال نظامٍ محتمل بنظامٍ مهووسٍ،. كثيراً ما يغرينا كي نستمريء الانتحار، المترجم في حرب أهليّة، لنجني، بهذا الطيش، انهيار التميمة السحرية، التي كانت منذ الأزل ضمان حضور الإنسان في حضرة أخيه الإنسان، لتغدو في مفهوم الأمم قدس أقداس، كما الحال مع: وجود الدولة، لأن بغياب الدولة من واقعنا، لن نملك إلّا الفرار إلى ذلك العهد الذهبي الغابر، السابق على انقسام القبيلة الإنسانية إلى نصفين: نصفٌ راحل، ونصفٌ آخر حطّ الرحال في المكان، ليمسي أسير المكان. أي العودة إلى فردوس الزمن الضائع، الذي كان فيه الإنسان يحمل دولته على ظهره، مهدهاً في القلب حريةً قصوى، فلا يُقهر أبداً، لاستحالة إستعباد أيّ مخلوق ٌعتاد أن يحمل على منكبيه بيتاً، مختزلاً دولته في بيته المحمول، ليبقى معصوماً من الحاجة لوجود تغيير، لأنه يحيا واقعاً ميثولوجيّاً، واقعاً مثاليّاً في ظلّ زمن ميثولوجيٍّ أيضاً، لأنه غير قابل لقسمتنا التقليدية في ماضٍ وحاضر ومستقبل، ولذا فهو في غنىً عن بدعة ما نسمّيه ثورة، اللهمّ إلّا حاجته للثورة على نفسه! فالهجرة للبسطاء، كما للأنبياء، حصانة من قدر ما نسمّيه تغييراً.

وهو ما يعني أن إنسان العمران، هو الذي استجار بالعبوديّة طوعاً، يوم اختار المقام بجوار أخيه الإنسان، لينصّب الأرض على نفسه سلطاناً، مسلّماً زمام أمره للعلاقة. علاقة قد تجير من غول الاغتراب حقّاً، ولكن الثمن المستوجب في حقّها جسيم، وهو التنازل عن تلك الحرية، التي لن تكون هنا سوى اعترافٌ صريح بضعف. اعتراف بعجز. اعتراف بهزيمة؛ لأن الأحرار وحدهم ليس لديهم ما يفقدون، ولذا هم، في الصفقة، الطرف الأقوى!

ولو استطاع مريد العمران أن يتحلّى بنصيب ولو قليل من شجاعة، لقنع بالتغيير، كأتاوة ملزمة، حتّى في صيغته الأسوأ، مادام  قد ارتضى التنازل عن بطولة الحضور في حرية أبديّة، كما يضمنها إدمان الإرتحال بوصفه التغيير، المفروض بسلطة واقع طبيعي، يحظى فيه المريد بتحريرٍ غيبيّ، لا يخلو من روح الشعر، ولكنه أقسى مفعولاً، لأنه فكٌّ خالد للارتباط بأحبّ ما في الوجود، وهو: الوطن. لذا فالإنسان الذي اختار المكان، ليدسّ فيه سحر ما أسميناه وطناً، ليس له إلّا أن يقنع بذلك الجنس من التغيير، الذي لا يلبث أن يسفّه ما قام من أجله، عندما ينتصر، لأن الثورات لم تُخلق لتحقق أحلامنا، ولكنها خلقت لتخذل توقعاتنا، برغم فظاعة التضحيات المدفوعة كثمن، والتي ليس على المريد أن يأسف عليها، حتّى لو أصابت القيم بمقتل، مهما وجد نفسه في موقف شاهد العيان على هذه القيم، وهي تتعرّض للدَّنَس، على أيدي الفرسان الجدد، إذا شاء ألّا يُصدم، وهو يرَى ما حسبه هبّةً قدسيّة للإنتصار للقيم، فإذا به يتحوّل مجرد معمعان حرب، الفوز بالغنيمة فيه هو الغاية، فلا يملك، من هول الحريق، إلّا أن يتغنّى بفضيلة الإصلاح الضائع. الإصلاح الذي كان خياراً متاحاً دائماً.

فما يجب أن نعترف به هو أن مجتمعاتنا لم تُمنَح الفرصة لكي تحيا وجودها في ظلّ سلطة مدنيّة، لأن واقع أوطاننا، طوال مراحل هيمنة الأنظمة المؤدلجة هو واقع معسكرات. معسكرات محكومة فعليّاً بقوانين طواريء. والفرد فيها يحيا مزموماً، محموماً، منتظراً حدوث ما يمكن أن يجود به واقع يهدّد بنشوب حرب في أيّة لحظة. أي إنتظار نفسي لحدوث تحوّل مجهول، يحيل النشاط اليومي إلى حظورٍ في كابوس ديمومة، توقّع الخلاص فيه يغدو حلماً، يغدو هاجساً، هاجسٌ لا ضمان ألّا ينقلب عُصاباً. ولا أحسب وجود شقاء يمكن أن يقارن بشقاء إنسانٍ يفني العمر كلّة منظراً تحوّلاً، منتظرا منعطفاً، منتظراً قارعةً، طمعاً في معجزة خلاص. وكانت هذه الحروب تنشب فعلاً، تنشب لأن قادة المعسكرات كانت تطلبها، تطلبها لتبرّر وجودها، لتضمن استمرار العمل بقوانين الطواريء، ولا تستيقظ من غيبوبتها حتى عندما تسفر حروبها عن هزائم، لأن لا وجود لأبرياء في منطق قانون الطوارئ. فالبريء هنا أيضاً متّهم، متّهم حتى لو ثبتت براءته، متّهم حتى لو لم يوجد جرم، كما في نموذج كافكا تماماً. والخسائر التي يخلّفها واقع من هذا القبيل، في نفوس الناس، تفوق في مفعولها النكسات الاجتماعية، أو الاقتصادية، لأن الثمن هنا هو: الإغتراب!

الاغتراب لا عن الإحساس بالمواطنة وحسب، ولكن الاغتراب عن الإحساس بالوجود.

هذا الإحساس تراجيدي بالطبع، والفرد فيه لا يملك إلّا أن يتبنّى موقف المُعارض. المعارضة لا في مفهومها الحرفيّ، ذي الماهيّة السياسية الشائعة، ولكنها المعارضة كقناعة معرفية، مبدئية، تسري في وجدان كل مريد حقيقي، أي أنها المعارضة في العلاقة مع كل نظامٍ أرضيّ، لأنها موقفٌ وجوديّ، فناموس الحرية الممنوح لنا بالطبيعة، هو الذي يُملي أن نعتنق دين المعارضة حتى في حقّ تلك الأنظمة التي اخترناها لأنفسنا، لأننا لن نضمن ألّا تنقلب علينا في اللحظة التي تأمن فيها حجّتنا. أي أنها معارضة مبدئية، أبدية. وأن تلهمنا موقفاً وجوديّاً في العلاقة مع واقعنا، فذلك لن يعني سوى التحلّي بالروح الفلسفية، بالروح السلمية، التي لن تبخل بالقرابين في سبيل ضمان حقن الدمّ، وإلّا انقلب موقفنا عدميّاً، منافياً للقوانين الوضعيّة، فكيف بالقوانين الإلهيّة، كما برهنت تجربة الرسالات النبويّة على سلطة السّلْم في تحرير الواقع الإنساني، دون الإحتكام إلى العنف؛ لأن ما لا يُغتفر في معجم الغيوب، هو الخلاص المشفوع بنزيف دمّ.

فحيثما شاهدنا احتكاماً إلى قطعة سلاح، بدعوى انتزاع خلاص، حصلنا في الختام على قصاصٍ بدلاً لخلاص.

فقانون «كما تدين تدان» هو القاضي هنا. والإنسان الذي عايش تجربتين ليبيّتين، ثم الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ثمّ قيام حركة التضامن في بولندا، التي قوّضت كيان المنظومة الشيوعيّة، ثم انهيار الإمبراطوريّة السوفييتيّة، يملك الحقّ في أن يجاهر بشهادته في شأن عدم جدوى انتظار خلاصٍ مجلّلٍ بنزيف الدمّ. وأحسب أن الإفتتان بتغيير واقع ما بالعالم، وليس بتغيير ما بالنفس، هو سرّ هذه القيّامة.

لأن الإستهتار بالروح إثم آثام. والوحي الإلهيّ هو الذي قضى بقدسية قطرة الدمّ، المجبولة بربوبية كلّ ما متّ بصلة لجناب الروح؛ لأن ما هو الدمّ إن لم يكن روحاً تجسّدت؟ وما هي الروح إن لم تكن دماً تبدّد؟

فما يليق بأن تعترف به الربوبيّة، في صفقة التغيير، هو نزيف الروح، الناجم عن الألم، وليس نزيف الدمّ. فنحن لن نتغيّر، ولن نحقّق لأنفسنا تحريراً، ما لم نؤمن بأننا لا نولد مرّة، ولكنّنا نولد مرّتين. نولد في المرّة الأولى الولادة التي لا فضل لنا فيها، ولم نخترها لأنفسنا، لأنها هبة نلناها بمشيئة أمٍّ هي الطبيعة. ولكننا مدعوّون لأن نحقّق بعثنا من قمقم الطبيعة بوسيطٍ جليلٍ هو الروح، لنكون شهوداً على ميلادنا الثاني. ميلادنا الحقيقي، بوصفنا الأمّة الغير معنيّة بالأشياء التي تُرَى، ولكننا معنيّون بالأشياء التي لا تُرَى؛ فالأشياء التي تُرَى وقتيّة، أمّا الأشياء التي لا تُرَى فأبديّة، عملاً بوصيّة القدّيس. فما يُرَى هنا هو منظومة ما بالعالم الحرفي، وما لا يُرَى هو المنظومة الغيبيّة المعنيّة في حرف ما بالنفس، ومحاولة تغيير ما يُرَى هو تغيير ما بالحرف، الحرف الذي يُميت، ولذا فهو مغامرة جسيمة، أما تغيير ما لا يُرَى، فهو بطولة تغيير ما بالروح: الروح التي تُحيي، لأن في بُعد الألم، الذي يدشّن ميلاد الروح، تتماهى الطريقتان، تتحالف الوصيّتان الربوبيّتان، وصيّة الإنجيل عن «الميلاد الثاني»، المطروح كشرطٍ لدخول ملكوت الربّ، وبين وصيّة التنزيل العزيز، المترجَمة في الآية: «إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم» (الرعد 11).

التغيير، إذاً، تغيير ما بالنفس، وليس تغيير ما بالعالم، هو الرهان الأحقّ بأن نعتمده تعويذةً في أداء الواجب: الواجب نحو أنفسنا، والواجب نحو وجودنا في هذا العالم، والواجب نحو وجود هذا العالم فينا، شريطة ألّا ننسى أن العالم انعكاس، مجرد انعكاس، لما يسكننا، انعكاسٌ لذخيرة المستودع الذي يتكتّم على الأحجية التي نصّبتنا أخلافاً لله في الأرض، لنكون جديرين بأن نتولّى الوصاية على الوجود في هذه الأرض. أوَ ليس هذا اللغز المستغلق، المدعو إنساناً هو الراعي، الذي لم يتردّد محفل الحكماء السبعة في أن ينصّبه على عرش الوجود مقياساً في حقّ كل أشياء هذا الوجود؟ ألم ينتدبه عرّاب العقل البشري «عمانويل كانط» لكي يكون هو الغاية، في عالمٍ كل شيء عداه مجرّد وسيلة؟ ألم يردّد شيللر الوصيّة القائلة بأن تحت كل حجرٍ في مقبرةٍ يهجع عالم كامل؟ فماذا سيحدث في حال استطاع كلّ منّا أن يشقّ معراجاً في نفسه، ليعبر بنزيف الروح جحيم وجوده، كي يحقّق بَعثاً، ينتزع به فردوسه الضائع، فلا يعود، بحرية الأبعاد القصوى، ضائعاً، ولكنه يستعير هوية الفردوس المستعاد؟

فكل القيم التي ننشدها من وراء أي حركة تغيير في واقعنا الدنيوي، ليس لها أن تتحقّق ما لم تكن استجابةً لحركة تغيير ما بأنفسنا، التي نعلنها في أنفسنا. فليس لنا أن نطمع في خلاصٍ لم ننفخ فيه من أنفاسنا في أنفسنا، ليكون بنزيف الروح صنيعنا. والحرية التي ننتوي أن نستزرع بذارها في محيطنا، ستبقى حلماً مغترباً عن واقعنا ما لم نحرر ما بأنفسنا. والعدالة التي نهفو لأن نستنزلها في واقعٍ حرفي، هو آثمٍ بطبيعته، هيهات أن تتنازل عن منزلتها الإلهيّة، ما لم تتحمّم بسلسبيل المنطق الذي يسكننا. والسلطة التي نتوهّم وجودها في مدارٍ يقع في فلكٍ يسبح خارجنا، لن تتحقق، ما لم نحقّق بأنفسنا، السلطة على أنفسنا!

 فليت التغيير، الذي انتدبناه إلى واقعنا بحرف الثورة، يكتفي بخرق القانون الوضعي، ولكن معالجتنا الرؤيويّة للمفهوم، الذي جادت به علينا اللغة، كشف كم الثورة عملٌ منافٍ لمنطق الوجود أيضاً، مادامت اللغة هي الناطق الشرعي باسم الوجود، ممّا يعني أننا نمارس تجديفاً في حقّ الوجود، عندما نعترف بالثورة رسولاً لتغيير ما بالوجود.

فحكم المنطق هو ما يدعونا لأن نختار ثورة الباطن، فلا نستسلم لنداء القلب الذي يستدرجنا إلى شطحة الباطل، لأن العاطفة فينا ماردٌ أقوى. ففي القلب يهيمن الهَوَى، وفي المنطق يسكن الإلهام، تسكن الحكمة. لأن الأكثر إغواءً هو أن نحكم لثورة الحرف الذي يُميت، على حساب ثورة الروح التي تُحيي.

في شأن تغيير ما بالواقع الإنساني لا وجود بالطبع لوصفة مسبقة، ما لم تخضع لإرادة فردٍ، يطرح نفسه قطباً، معنيّاً في الأساس بتغيير ما بنفسه، بوصفها مركز كينونة، يملك الحقّ في أن يلقّن الأغيار رسالة التحرير، بضربٍ من عدوى، تنتقل من فردٍ إلى صفوةٍ، لتسري في وجدان وسطٍ إجتماعي، مؤتلفٍ بموجب عقدٍ ضمنيّ؛ تستعير ثروتها الروحيّة من الإيمان بالـ  evolution، كحملة تطوير، مقابل عزل مفهوم الردّة الكامن في إفيون حداثي أدمنه الجيل في الـ revolution ، حتّى إذا أعجزنا، اعتماد مفهوم تغيير ما بالنفس، لم يبق لنا إلّا الإعتراف بالتغيير في صيغته ككارثة بيئيّة، مفروضة بقوانين الطبيعة، وليس حُكماً مشفوعاً بمنطق التاريخ، مجدوحاً بروحٍ عدميّة، جزاء التدخّل في واقعٍ، هو حكرٌ على ذلك القدر، الذي فوّضته الألوهة، لكي ينوب عنها في تسيير شئون البشر.

فكما يحتّم منطق العقد الاجتماعي التنازل عن نصيبٍ من حرّيتنا، مقابل شراء الأمان الضروري لحضورنا في واقعٍ جمعيٍّ معقّد، تتقاطع فيه المنافع، وتعصف به الأهواء، كذلك يحتّم منطق الواقع أن تقبل الأنظمة القائمة بلجم جنونها، فتتنازل عن نصيبٍ وافرٍ من جُورها، فتحتَكم إلى الهدنة؛ كما يحتّم الواقع على الشعوب أن تقلع عن تعاطي إفيون إشعال الحرائق، فتقبل بالهدنة، بعد أن برهنت التجربة أن شهادة الوفاة في حقّ الفريقين، إنما هي رهينة القبول بالثورة معبوداً؛ فلا يبقى أملٌ في الخلاص إلّا بالتصالح، وذلك بتحكيم الإصلاح في النزاع قاضياً. لأن في الإصلاح لا يتحقق فقط حقن الدم، ولكن يتحقق السِّلْم، القادر على استثمار ثروة نفيسة كالاستقرار في إنتاج النموّ، النمو كوقودٍ وحيدٍ لحلم كل الأجيال، وهو: التطوّر!

 نعتنق هذا لئلّا نخسر الرهان، بوحيٍ من أيديولوجيا، أبت في كل مرّة، إلّا أن تسوّق التغيير كغاية في معزوفة احتكارها للحقيقة: الحقيقة التي شهدت لنا مراراً بصواب الموقف من أي تغيير خذلته التجربة فأخفق في تحقيق حرية وعدنا بها، ولم يضمن فوزاً بعدالة تغنّى بها، ولم يفلح في إنجاز طفرةٍ في تحسين أحوالٍ راهن عليها، لأن الحقيقة، كقاضي قضاة، في محكمة الحكمة، هي التي استصدرت في حقّ هذا المعبود المزيّف حكم الإعدام، لأن مَن اصطفته الأقدار، لتكشف له الحقيقة عن وجهها في الصباح، وحده حقّاً لن يضيره أن يذهب ليموت في المساء.