نهفو دوماً لأن نُمنح فرصة اختيار، حتى إذا أتيحت لنا هذه الفرصة أُسقط في أيدينا، لأن على عاتقنا وحدنا تقع مسؤولية مواجهة أنفسنا، لأن مصيرنا آنئذٍ سيتوقّف على مدى صواب اختيارنا، سواء أكان المصير هنا هو مصير فرد، هو عضو في جسدٍ يلفّق مجتمعاً، أو مصير وطن يستوعب جموع أفراد. لأن بالخيار فقط، نستطيع أن نفوّض القدر، لكي يقول كلمته فينا.

لهذا السبب كان الخيار دوماً مغامرة خطرة. والشجعان، المشبعون بروح الفروسيّة وحدهم، يجرؤون على قبول التحدّي، بخيارٍ، هو في الواقع، تحديد موقف من الوجود، وليس مجرد تحديد موقف من نظام سياسي، مادامت الحرية هي الحجّة في المبارزة الانتخابية. والحسابات التقليدية، المشفوعة بالأهواء الأمّارة بالسوء، أو المدنّسة بروح النفع، لن تجدي يقيناً في تحقيق الخيار الأصحّ، مهما حاولنا تحكيم الحدَس، ومهما أخضعنا قائمة المريدين لمنطق الفحص، لأننا سوف لن نأمن الزّلل مادمنا نفاضل بين المريدين، الذين نعلم مسبقاً كم هم حواة، بل يكفي حجّةً أنّهم مريدون؛ لأن مَن قبل بهويّة "مريد"، فهذا دليلٌ صريح على عدم أهليّته لكي يتولّى شأناً جسيماً، أخفقت حكمة الجنس البشري في أن تجد لحقيقته تأويلاً، كما الحال مع الأحجية الملقّبة في رهانات الأمم باسم: الحُكم!

فالسلطة هي المعجزة التي أوتيت القدرة على تزييف معدن الأنام، ليس لأن مفستوفيلس ماردٌ لا يُقهر، ولكن لأن نيلها رهين الصفقة التي نتنازل بموجبها عن الروح، مقابل الفوز بالسلطان الذي يمكّننا من انتزاع صلاحيّات ربّ السماوات والأرض، لاستخدامها في حقّ مخلوقات الخالق على الأرض. وهو ما يعني أننا لن نلوم إلّا أنفسنا عندما نقوم بتزكية نموذج بلغت به الوقاحة درجة مكّنته من أن يرى في نفسه الكفاءة في ممارسة تجديف كهذا!

فكم هي شقيّة تلك الأمّة التي لم تجد خياراً لاختيار مَن يتولّى أمرها خارج قائمة المريدين، خارج قائمة الآثمين! أعجزتها الحيلة في أن تشنّ الحملة الباسلة، بحثاً عن فارس الخلاص الحقيقي، القابع في بُعْدٍ مّا، خارج فردوس القائمة، لأن الهارب من وجه العرش وحده مسكونٌ بالحقيقة، ووحده المنقذ الأنسب لتولّي رعي الأنام، الذي لم يختلف يوماً عن رعي قطعان الأنعام، وإلّا لما كان كل أنبياء الخلاص رعاة أغنامٍ، ممّا روّضهم على إتقان رعي الأنام.

لقد أفلح دهاة الإغريق في الوصول إلى بُغيتهم، بعد كفاح طويل، وفحص مرير، يوم استجاب إمام الحكماء السبعة "صولون" لندائهم، فقبِلَ أن يسنّ لهم الشرائع التي ستحكمهم، لتكون له بديلاً عن الحاجة لتولّي حكمهم، بشرط أن يقبلوا بمقتضاه أن يقلعوا عشرة أعوام عن افيون تغيير بنود القوانين، كما اعتادوا أن يفعلوا كلّما ضاقوا ذرعاً بقسوة الحرف في القوانين. فهل يثق بوعودهم في شأن الشرط، وهو العليم بطبيعتهم، وتذبذب مزاجهم؟

كلّا بالطبع!

هذا هو ما دعاه لأن يستجير بالمنفى طوال مهلة العشرة أعوام، الممنوحة لهم بموجب العهد المبرم، حتى لا يجبروه على القيام بتبديل البنود المنصوص عنها في الشرائع في حال البقاء في ديارهم.

فهل بوسع الليبيّون، الذين احترقوا دوماً بسبب غياب القوانين القادرة على أن تتولّى أمرهم، أن يفتّشوا عن مريدين لا يريدون، بدل إجبارهم على القبول بقائمة مريدين يعلمون جيّداً حقيقة نواياهم كمريدين؟

لم أجد ما أهديه لأمّتي الشقيّة، في منفاي الأبديّ، إلّا هذه الوصايا النفيسة، المترجمة لحكمة التجربة الإنسانية في حقّ أنبل حقّ وهو حقّ الاختيار، جاهر بها الدهاة منذ القدم، فيحسن بنا أن نحتكم إلى كلمة الحقيقة في محكمة الحكمة:

1
"لبطاقة الانتخاب مفعولٌ أقوى من مفعول الرصاصة".
(أبراهام لنكولن)

2
"الخيار سيغدو معدوماً عندما يكون خياراً بين قطع التفّاح الفاسدة".
(شكسبير)

3
"على الإنسان الحكيم أن يقتدي بالحكماء في اختيار مسلكهم، فإن أخفق في تحقيق منزلتهم، فلن يعدم أن ينال نصيباً من شعاعهم".
(ميكافيلّلي)

4
"نستطيع أن نهب أصواتنا لمن خالفنا الرأي، ولكن هيهات أن نجود بأصواتنا لمن لم نستلطفهم".
(ماكّييه)

5
"اختيار الحكماء وأهل القداسة لكي يحكموا، عملٌ من شأن الحكماء وأهل القداسة، فإذا كان الناس كلّهم حكماء وأهل قداسة، فلا حاجة لوجود نظام حكم".
(تولستوي)

6
"من الأفضل الذهاب إلى صناديق الاقتراع، لكي نقي أنفسنا شرّ الوجود وراء المتاريس".
(سفيروس)

7
"نخسر أحياناً لا بسبب الاختيار الخطأ، ولكن بسبب تقاعسنا عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع".
(سفيروس)

8
"الخيار الحقّ هو الخيار بين ما لسنا بحاجةٍ إليه".
(سينيكا)

9
"للاختيار الخاطئ لا وجود لغفران".
(شيفتسبري)

10
"القدرة على الاختيار هي أكثر مواهب العقل البشري".
(وايلدر)