1 سألتُ سعدي يوسف يوماً: ما سرّ شبابك؟، فأجاب: السفر!

كان السفر دليلي إليه، وكان السفر دليله إليّ، ليغدو قاسمنا المشترك الذي جمعنا في عمّان، في خريف  1993 لأوّل مرة، في وقتٍ أقبل فيه من عراقه الجريح، عقب حرب الخليج الأولى، وأقبلتُ من جبال الألب السويسري، في طريقي إلى بيروت، لطبع الجزء الأوّل من رواية «السحرة».

قام بزيارتي في الفندق لتناول طعام العشاء برفقة عقيلته، شقيقة صديقتنا النحّاتة العالمية منى السعودي، التي استضافتنا لاحقاً في بيتها العامر بكنوز الروح أيضاً، إلى جانب كنوز الحرف؛ يكفي أنه مسكونٌ بورشة عملها، التي اعتادت أن تحوّل فيها جلاميد الحجارة إلى آياتٍ سحرية، مشفوعةٍ بالفتنة والجمال والشعر، الشعر الذي لم يكن أفيون سعدي وحده، ولكنه كان فتنة منى السعودي أيضاً، وإلّا لما أفلحت في أن تستنزله ضيفاً في رحاب الحجر. ولكن السفر كان الشبح الذي هيمن على جلساتنا طوال تلك الأيام، لأننا لم نكن نطمع في أن نتقاطع، لولا تدبير ترفٍ إسمه السفر. فكلّنا كان في تلك المرّة رهين مشيئة سفر.

وعمّان لم تكن لأيٍّ منّا سوى محطّة لالتقاط أنفاس، ليواصل سعدي، بعد أمدٍ سفره إلى بريطانيا، وتقوم منى بحمل متاع ذخيرة تُحفها في طريق العودة إلى بيروت، التي لم تستبدلها بعمّان إلّا بسبب الحرب الأهليّة اللبنانية، هذا في حين كان على شخصي أن يواصل رحلته إلى بيروت أيضاً، ثم الإلتحاق بالمقام الجديد في رحاب الألب السويسري. ولم نملك كلّنا إلّا أن نحتكم إلى جناب السفر، لنعبّر له عن امتناننا على حكمته التي أطعمتنا شعراً، ووَجْداً، وقبل كل شيءٍ: حُبّاً!

ولا أنسى ملاحظته التي تتعلّق برواية «السحرة»، التي كان قد قرأها في المسودّة، عندما وصفها بـ الحسيّة، خلافاً للروح الزهدية في «التّبر» التي كان قد تناولها بمعالجة نقدية في إحدى الصحف العربية حال صدورها قبل لقائنا بأعوام. وها هو يكشف بعبارة عابرة حقيقة أثارت فضولي: فأن تكون «السحرة» رواية حسيّة هذا يترجم في الواقع طبيعة عمل الساحر كمستكشف لمجاهل أمّنا الطبيعة. فهو ليس نبيّ واقع ما قبل التاريخ وحسب، ولكنه طبيب مجتمع ما قبل التاريخ أيضاً.

نبوءته حسيّة لأنها معنيّة باستطلاع سجل الطبيعة، والبرهان تجود به علينا اللغة: فإسم الساحر في المصرية والليبية القديمتين «يوتب»، أو (أتب)، وهي تعني في الأرومة البدئية: الكشف! كما لا تزال تجري في لسان أحفاد قدماء الليبيين، أهل الصحراء الكبرى، بهذا المعنى حرفياً. وانتماء الكلمة للغة البدايات هو ما جعل العربية تعتمدها في «أتب» الدالّة على الثوب الشفّاف، الذي يكشف الجسد. فالكشف هنا هو كلمة السرّ في استجلاء واقع الطبيعة الخفيّ، بما في ذلك استجلاء العلل. العلّة ليس في بُعْدها الحرفي وحسب، ولكن في بعدها الروحي أيضاً. ولا ترياق لخلل بدون استعانة بالكشف، والساحر يحترف الكشف لا ليستطلع الأسباب في واقع حسّي وحسب، ولكنه يستدرج الخفاء كي يدلي بمنطوق شهادته في غموض كل مبدأ غيبي، وهو ازدواج في مهنة الساحر. فالحسّ عالمٌ يستودع ذخيرة لن تعدم قرون استشعار باستنطاق الغيوب، لاستجداء الاستشفاء الروحي أيضاً. وهو ما يعني أن السحر كان مغامرة في سلّم الصعود إلى أعلى، إلى عتبة في سلّم الكشف العصي: الكشف الذي سيتجاوز برزخ العالم السفلي، ليحلّ ضيفاً في ملكون القطب الفلكيّ، ليكتسب في هذا البعد ماهيّة الوحي النبوي. وكان على الزمن أن يتريّث طويلاً قبل أن يشهد الواقع الانساني انقسام علم الكشف إلى شقّين: شقٌّ يلعب فيه الطبيب دور نبيّ الجسد، وشقٌّ يلعب فيه النبيّ دور طبيب الروح، في زمنٍ فانٍ عَبَرَ، كان فيه الساحر يتربّع على عرش الداهية الذي يختزل في شخصه هوية القطبين.

اختزال الساحر لعمل هذين القطبين الثريَّين هو ما أهّله لكي ينتصب نموذجاً وجودياً موحياً، يستهوي أيّ مريد.

 2
فما معنى أن يكون السفر سبباً لديمومة حياة؟

سعدي اعترف لي في ذلك اللقاء أنه طوى صحيفة الستّين عاماً للتوّ، وهو ما لم يتناسب مع سيمائه، ممّا دفعني لأن أتساءل عن سرّ الترياق. وهو لم يخطيء في الإعتراف بأفضال السفر، لأن ممارسة السفر هو ضربٌ من حضور في حضرة الصفر!

ما ماهيّة الحضور في بُعْد الصفر؟

الصفر ليس هاوية عدم، ولكنه مستودع إعجاز. الصفر ليس محواً، ولكنه حجّة إثبات. الصفر ليس اغتراباً، ولكنه حضورٌ يعتنق دين الحجاب.
الصفر هو الأرومة التي تجود بأحجية تكوين، لأن الصفر وحده معصوم من سفّاح الزمان، ومن جلّاد المكان.

يكفي الصفر شرفاً أنه الوحيد المعصوم. معصومٌ من كيد المكان والزمان، ولهذا السبب كان لغز كل الأزمان. وليس مصادفة أن يستعير السفر إسمه من الصفر في العربية، لأن السفر مغامرة لاكتساب خصال الصفر في بعدها الأقصى. ولم يكن السفر مقدّساً في كل الثقافات إلّا بسبب هذه النزعة. بسبب هذا الطموح. بسبب التوق لاعتناق هوية اللغز الخالد، كما هو الصفر. فمبدأ الخلود طبيعة صفرية. ولهذا السبب اعتمدته اللغات في صيغة الدائرة، لأن الدائرة رمز الألوهة، التي لا تعترف لا بالبداية ولا بالنهاية. وفي أبجديّة اللغتين القديمتين المصرية والليبية ترد الدائرة كرمز دال على حرف الراء، الحاملة لمعنى القدمة، أو بالأخصّ: الربوبيّة. وعندما يكابر السفر، فيحاكي الصفر في ملفوظ المفردة، فهو يستميت للإستيلاء على القيمة المخفيّة في المفهوم أيضاً، لا في الحرف فقط. فما يجب أن نعترف به للسفر هو شجاعة التخلّي. ففي اللحظة التي نتأهّب فيها للإنطلاق في سفر، فنحن نكفّ فوراً أن نكون نحن، لأن سيماء أخرى تتنزّل فينا. سيماء الحداد هي التي تتنزّل فينا. ليس مسوح الحداد، ولكن قناع القربان هو ما يستوعبنا. إنها بصمة القداسة التي تجعل من المسافر مخلوقاً يتبدّى للأغيار ملاكاً دون أن يدري. فالسفر انطلاقة في مغامرة حرية. ليست مجرد حرية، ولكنها حرية الأبعاد القصوى، لأنه وحده في أمان من غول الزمان، ومن أسر المكان. إنه، ببساطة، شبحٌ يتحصّن بِحِمَى البعبع: يتحصّن بالموت! ولهذا السبب كان السفر عملاً فدائياً في كل الثقافات. ولكن هذه البطولة تبقى رهينة الرحلة، فإذا استقرّ المقام بالبطل بَطُلَ مفعول السحر! بَطلَ مفعول البطولة. تنقشع مسحة القداسة، وينطفئ شعاع التحدّي، ليحلّ الفناء في السيماء!

ولهذا السبب يأبى الأحرار إلّا أن يدمنوا هذا الافيون الإلهي، لأنه وحده ترياق الشيخوخة، والضمان في الفوز بالخلود: الخلود المشروط ببقاءٍ قيد الوجود!
يروي هيرودوت عن أهل الصحراء الليبية أنهم قومٌ لا يموتون من أمراض، ولكنهم يموتون عندما يَبيدون، عندما يفنون فناء الجسد.  ومازال أحفادهم في الصحراء الكبرى يستودعون معمّريهم الحُفَر كلّما أقعدهم العجز، وملّوا التنقّل بهم من مقام إلى مقام، وهم يردّدون:  «وجّيغ تمّضريت آجّيد آتّدولَد ـ وجّيغ تورنا آجّيد آتّزّيَد». (لستَ صغيراً حتّى تترعرع ـ لستَ مريضاً حتّى تبرأ). فلا ترياق في الواقع لمن بلغ من العمر عتيّاً سوى أن يتوسّد الهاوية التي لا خير فيها «كما يصفها حكيم الجامعة»، لأن ليس له  أن ينتظر نموّاً بعد أن استكمل منازل النموّ، وليس له أن يرجو شفاءً من المرض الوحيد الذي لا شفاء منه إلّا بالموت، وهو: الشيخوخة!

فالسفر، هو قرين الموت في أحلام المنام، في مفهوم علم النفس الفرويدي. وعندما يرى النائم نفسه في سفر، فهذا سيعني ميتة. ليس بالضرورة بالطبع أن تكون الميتة حرفيّة، بل افتتان الأحلام بلعبة المجاز كثيراً ما يدلّل هنا على حدوث ميتة من جنسٍ أرذل، كأن تعني عقد صفقة مشبوهة نفقد بموجبها الضمير!

فالميتة التي ندفع الضمير ثمناً لها، هي، في مفهوم الغيوب، الميتة الأسوأ من ميتة الحرف.

فالسفر ترياق الشيخوخة، لأنه حرية المحدود.

ولكن الموت ترياق الوجود، لأنه حرية اللا محدود.

 3
فمن جرّب السفر وحده يدري كم هو عملٌ شجاع القيام بهذه المغامرة. فالحرية حملة خطرة. يكفي أن نقول أنها ترحيبٌ سافر بما نسمّيه اغتراباً، بما هو تجربة احتراف للمنفى. فأن نتنكّر للجذور، ونتخلّى عن مسقط الرأس، ونضحّي بأنفس ما في الوجود، وهو، العلاقة، لنُلقي بالروح غنيمةً للريح، مستبدلين، بذلك، العهد بالفقد، فتلك حقاً البطولة الجديرة باسم الحرية، والحرية ملاذ الشيخوخة، والترياق لورمٍ غيبيّ في الطبيعة إسمه: الوجود!