"المكان الوحيد المناسب للإنسان النزيه في عالمنا هو: السجن!". (هنري ثورو) وولدرن، أو الحياة في الغابة
1
الإنسان النزيه براءةٌ تسعى. وهو، لهذا، روحٌ حيّة في عالمٍ بضميرٍ ميّت! ولهذا السبب أيضاً هو منذورٌ للطّعن مسبقاً. فالعالم الآثم بالسليقة، لن يحتمل وجود ضميرٍ حيٍّ في واقعه الميّت. ولمّا كان العالم هو الطرف الأقوى، في المعادلة الوجوديّة، فمن الطبيعي أن يغدو فيه النزيه ضحيّةً، لأنه الطرف الأضعف. وعلّ أقلّ قصاص في حقّه هو استيداعه قضبان الحبوس!
ولمّا كانت النزاهة ترجمة صريحة لما نسمّيه براءة، فمن الطبيعي أن يستنزل عالمنا اللا أخلاقي القصاص نفسه في حقّ سليل البراءة. فهل العالم يملك الحقّ؟
العالم يملك الحقّ بالطبع في ظلّ هيمنة القوانين الوضعيّة.
ولكن بمنطق أية عدالة تتغنّى القوانين الوضعيّة؟
بمنطق العدالة الأرضيّة بالطبع، لا السماوية. وسيبقى عالمنا الجائر على حقّ ما لم تتدخّل المشيئة الإلهيّة يوماً، لتقضي بين الضحيّة والجلّاد. بحكم التنزيل، بمنطق التنزيل. يكفي النزاهة فخراً، في حلفها الفطري مع البراءة، أنها على استعداد دوماً للتضحية بالمجد في سبيل الاحتفاظ بمعبودها: الرباط!
تستجير بتلابيب الزهد، كي تجير جوهرها البتول من دنسٍ محكومٍ بروح الصفقة النفعية، ممّا يجلّل النموذج بتلك الهالة الاغترابيّة، التي تتوّج سيماء كل مَن اعتنق الهجرة ديناً، كأنّه وَسم الحداد. وهو في الواقع بالفعل حِدادٌ، لأن أيّ سلطان يستطيع أن يحوّل هذا المخلوق الوديع، الذي يبدو درويشاً شقيّاً إلى ماردٍ يخشاه أعتى الطغاة، إن لم يكن تلك الوثيقة التي تجرّده من هويّته الأرضيّة، من هويّته الدنيوية، لتهبه حصانة المريد الذي لم يعد معنيّاً بالانتماء إلى ملّة هذا العالم، المترجمة في حرف الحداد، فلم يعد يستهويها، في واقع دنيانا، سوى عزلة المقام في حرم الرباط؟ بلى! كل نزيه، بمنطق الحقيقة، هو نزيل رباطٍ. كلّ مَن آلى على نفسه أن يتحدّى إفلاس واقعنا، ويتنصّل من مسئوليّة الانتماء إلى باطل باطلنا، هو أسير منافٍ، هو طريد فردوس، هو طريد فردوس الزور، ومريد فردوس النور!
ولهذا السبب هو، في منطق قانوننا الوضعي، بمنطق قانون الحضيض، عدوٌّ مبين. وهو ما يعني أن الحكم المسبق هو قدره. ولهذا السبب هو سجينٌ حتّى لو لم يُستَودَع خلف القضبان. هو سجينٌ بحكم المنطق، سجينٌ بحكم منطق المكيدة، التي تحكم علاقاتنا، فلم تخطئ حكمة الإنسان السومريّ، الذي استنزل في حقّها وَسماً جسيماً هو "تامكارّا"، الدالّة في اللغة البئية، على الصفقة التجارية.
ففي واقعٍ تغدو فيه العلاقة الانسانية مكبّلة بأغلال الروح التجارية، جديرٌ أن يصير فيه مصير النزيه، قضيّة وجوديّة، برغم أن مُصلحاً عظيماً، وفيلسوفاً مرجعيّاً، في مقام تولستوي، أبَى إلّا أن يتبنّاها في ملحمته "البعث"، كقضيّة أخلاقيّة، شغلت عقل القرن التاسع عشر، فلم يجد مريد الحقيقة مفرّاً من أن يطرح السؤال التراجيدي عن حقيقة الحرية، التي جادت بها الثورة الفرنسيّة، ولكنه اكتشف أن الحرية، التي يتشدّق بها، لم تضمن وجود تلك العدالة، التي ستحرّر النزيل الأبديّ، من سجنه الأبديّ، ممّا يُبقيه أعزلاً، بلا حول ولا قوّة، عاجزاً عن الدفاع عن نفسه بطبيعة الإحساس بالبراءة، ناسياً أن النزاهة، في واقعٍ ٍتغترب فيه الحقيقة، تغدو عملاً ملطّخاً بوصمة الصفقة، جرماً لا يُغتفر في عرف القوانين الوضعيّة، هذه القوانين التي لم تكن لتقبل بهذه التسمية لو لم تعترف بالبعد الحقيقي لوظيفتها في اللغة، وهو: الوضاعة، وليس استعارةً من الوضع، أو الموضوع، كما قد تتوهّم ملّة تتعاطى حسن النيّة.
موقف الإنسان النزيه من هذا الواقع يوحي للأغيار باعتماد سخرية. سخرية من الواقع، سخرية من ولاة أمر الواقع، سخرية من قصاص هؤلاء، لينتهي المطاف بسلّم السخرية إلى السخرية من البعبع، من المنيّة نفسها: المنيّة التي تبدو في نظرنا بعبعاً، دون أن يخطر ببالنا بالطبع أن ما نحسبه نحن سخرية، هو، في يقين ضحيّتنا، مجرد تسليم. تسليم بالأمر الواقع، وقبول بقدر الصليب.
فعلاقة الانسان النزيه بواقع عالمنا ليست واقعية، ليست فعلية، ولكنها علاقة الضيف بمضيفه. علاقة مَن فُرض عليه قدر الضيافة، ليجد نفسه مقذوفاً به في وضعٍ موحش. ضيافةٌ لم يخترها، ولكنها هي التي اختارته لكي يلعب في المهزلة دور الضحية. والخجل الذي يتحلّى به النزهاء ما هو إلّا ترجمة صريحة لهذا الاحساس الدرامي بهوية التطفل. ولذا حقّ له أن يستعير ماهيّة قدسية في كل الثقافات، وهي الانتماء إلى ملّة الغرباء الذين تغنَّى القديس بولس بحقيقتهم عندما أوصى: "استضيفوا الغرباء، فإنّ أناساً كثيرين استضافوا في الغرباء ملائكةً وهم لا يعلمون".
ودوستويفسكي أصدق من استجاب لنداء القديس بولس يوم قرّر أن يتحف الإنسانية بحقيقة هذا النموذج في رائعته المرجعيّة "الأبله"؛ ممّا يعني أن النزيه ليس سوى مسيحٍ يتنكّر في جرم هذا الدرويش أو ذاك، لكي يعتذر لنا، بصريح العبارة، عن خطيئته في حقّنا، لمجرد أنه وجد نفسه محشوراً في هذا السجن، المسمّى في رطانتنا جسداً، فلا يضيره أبداً إذا استودعناه سجناً آخر، ملفّقاً من قضبان حديد، بدل قضبان قفص الصدر!
يفعل مريد النزاهة هذا سعيداً، ليقينه بأن السجن بضميرٍ نقيّ حريّة، والحرية بضميرٍ مشبوه سجن!
2
وكان من الطبيعي أن تتولّى عبقريّة هذا العرّاب النبويّة الكشف عن ذخائر المعدن الإنساني الملتبس، لحظة التّماس مع واقع معقّد، تهيمن عليه روح الدراما العدميّة، التي تستوجب تحديد الموقف من وجودٍ لم نختره لأنفسنا، مترجماً في ذلك المشهد الرهيب، الذي يقوم فيه المؤلّف بحشر كل نماذج عمله الملحميّ، كي يفضح دخيلتهم الخبيئة، كعادته في أعماله الخمس الكبرى، ليطوّقوا بنواياهم مخلوقاً بلا حول ولا قوّة، كل خطيئته أنه أقبل على عالمنا بروحٍ عارية، ظنّاً منه أننا على دينه في الانتماء إلى طينة الحقيقة، فإذا بالأمير الدرويش ميشكين يتلقّى صفعةً قاسيةً، مكافأةً له على حسن ظنّه بعالمنا، في محفلٍ تعمّد ديستويفسكي أن يجسّده كصيغة مجازيّة تختزل ضلال الانسانية برمّتها، فإذا بالوجود كلّه ينشلّ من هول الزلزلة؛ لأن ما حدث لم يكن مجرد طفرة جنون من مخلوق أهوج، ولكنه فعل خطيئة قاتلة، تهدّد باستنزال قصاص في حجم قيامة! ذلك أن الرسول المخوّل بإنقاذ الإنسانية أُهين على مرأى ومسمع وتواطؤ من المحفل الإنساني. فكما تمّ صلب المسيح بيد رعاع، كذلك تلقّى النموذج الدرويشي، الميشكيني (نسبة إلى ميشكين) إهانة قاسية بيد سافلٍ دخيلٍ على المحفل، فكيف لا يعمّ السكون، وتخرس الألسن، وتصاب الأبدان بالشلل، فيحبس الوجود كلّه أنفاسه انتظاراً لحلول القصاص الإلهيّ، ثأراً لشرف البراءة، التي لم نعرفها إلّا في النزاهة؟ كيف لا يتوقّع المحفل الشقيّ، ومن بعده الانسانية كلها، قيام القيامة، جزاء هذه القارعة؟
عبقرية عرّاب الرواية العالمية لم تتوقّف عند هذا الحدّ، ولكن عليها أن تجود بما يشفي الغليل، عليها أن تهدي لنا حلّاً مقنعاً للمأزق. وها هو الخلاص يأتي على يد النموذج، يأتي على يد الروح التي لم تعتنق سوى النزاهة ديناً، يأتي هبة من الضحيّة، يأتي من الأمير ميشكين نفسه، عندما نطق ببيان الغفران، ليبدّد بهذه التعويذة السحرية، شبح البلاء!
هذا يعني أنّ علينا أن ندعو عرّاب النفس الإنسانية هذا لأن يُعيد النظر في نظريّته القائلة بأن الجمال هو الذي سينقذ العالم، ليقول لنا أن البراءة، المترجمة في حرف النزاهة، هي الأجدر بأن تكون الأعجوبة المخوّلة بأن تنقذ هذا العالم، دون أن ننسى أن هذا العالم الذي يعادينا، لن يتحرّر من جبنه، أو جنونه، أو جوره، أو زوره، ما لم نحرّر نحن أنفسنا، بتغيير ما بأنفسنا، لنتطهّر من جبننا، ومن جنوننا، ومن جورنا، ومن زورنا!