تَأسست المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 كأول محكمة جنائية دولية دائمة مستقلة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بأكثر الجرائم الدولية خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره.

تعمل المحكمة جاهدة على إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، وأنه يجب مقاضاة مرتكبي هذه الجرائم الدولية الخطيرة على نحو فعال من خلال تدابير تُتَخذ على المستوى الوطني وكذلك من خلال أُطُر التعاون الدولي بين الدول والمحكمة .

وفقاً للمادة الأولى من النظام المؤسس للمحكمة الذي صدر في العاصمة الإيطالية روما في عام 1998، تمارس المحكمة اختصاصها علي الأشخاص المتهمين بارتكاب أشد الجرائم خطورة موضع القلق الدولي؛ وهنا من المهم الإشارة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية وخلافا لمحكمة العدل الدولية تدليلاً لا تمارس اختصاصاتها على الدول، بل تلاحق المتهمين بارتكاب أي من الجرائم الدولية حصراً : الإبادة الجماعية، والعدوان، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية .

يُمكن وَسم المحكمة التي وصل عدد أعضاءها 123 دولة حتى يونيو 2021 ، بمحكمة الملاذ الأخير، حيث تعمل هذه المحكمة على إتمام الأجهزة القضائية الموجودة في الدول المختصة أساساً بملاحقة الأشخاص الذين يرتكبوا أي من الجرائم السالف ذكرها على أقاليم الدول الأعضاء، فالمحكمة لا تستطيع أن تقوم بدورها القضائي ما لم تُبد المحاكم الوطنية رغبتها أو كانت غير قادرة على التحقيق أو الإدعاء ضد تلك القضايا، فهي، أي المحكمة، تُمثل المآل الأخير، فالمسؤولية الأصلية و الأصيلة في ذات الوقت تتجه إلى الدول نفسها.

ولذلك نجد أن مبدأ " التكاملية " يعد الجوهر الأساسي لعمل المحكمة الجنائية الدولية ، وهنا فالحالة السودانية تُعَد مثالاً صارخاً يُضرب للتدليل على مدى قدرة الأنظمة القضائية الوطنية في ملاحقة المتهمين من قبل المحكمة في لاهاي، حيث أكدت الحكومة السودانية اليوم 27 يونيو 2021 أنها اتخذت قرارا بتسليم 5 من المتهمين بارتكاب جرائم حرب في دارفور لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي .

عطفاً على ما سبق، تتحمل المحاكم الوطنية المسؤولية الأساسية عن التحقيق في الجرائم ومقاضاة مرتكبيها بما يتماشى مع ما يُعرف بمبدأ التكامل المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، لكن حيث تؤدي تحقيقات المحكمة بالفعل إلى أوامر توقيف للمتهمين، ينبغي للسلطات المحلية أن تثبت للمحكمة أنها تحاكم المشتبه بهم عن نفس الجرائم التي تحاكمها المحكمة الجنائية الدولية، والسودان حتى اللحظة الآنية لم يجرِ أي إجراءات تحقيقة أو قضائية محلية من هذا القبيل للمشتبه فيهم المطلوبين من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ومن بين المطلوبين الرئيس السابق، عمر البشير، ومساعده أحمد هارون ووزير الدفاع السابق عبدالرحيم محمد حسين لكن الحكومة السودانية لم توضح ما إذا كان البشير واحدا من هؤلاء، كما لم تحدد موعدا لتسليم هؤلاء.

كانت المدعية العامة السابقة فاستوبانتودا للمحكمة الجنائية الدولية طالبت السودان، العام الماضي، بتسليم متهمين من بينهم البشير من أجل محاكمتهم على خلفية ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور، أودت بحياة أكثر من 300 ألف شخص ينتمون للقبائل العربية المسلمة: الفوروالزغاوة والمساليت.

أما المتهم علي كوشيب، قائد ميلشيات الجانجاويد في دارفور، فقد آثر أن يُسَلم نفسه لعدالة المحكمة في لاهاي مطلع هذا العام وبدأت جلسات الاستماع الرئيسية لـ"المحكمة الجنائية الدولية" في قضيته في 24 مايو 2021، وهي خطوة مهمة نحو العدالة في الجرائم الجسيمة المرتكبة في دارفور بالسودان، لكن يظل غياب أربعة مشتبه بهم، بمن فيهم الرئيس السوداني السابق عمر البشير، عائقا يحول دون جبر الضحايا في دارفور، والعمل على إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب في واحدة من كبريات الدول العربية و الإفريقية، حيث كانت المحكمة، أصدرت أول مذكرة توقيف بحق كوشيب، شملت 50 تهمة ضده بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب لمسؤوليته عن عمليات اغتصاب، وتدمير ممتلكات، وأفعال لاإنسانية، وهجمات على المدنيين وقتلهم في أربع قرى في غرب دارفور في عامي 2003 و2004.

رغماً أن السودان ليس عضواً في نظام المحكم الجنائية الدولية، لكن يقع على السودان التزام قانوني صريح بنقل المشتبه بهم الأربعة إلى المحكمة الجنائية الدولية، فقرار مجلس الأمن تحت الفصل السابع الذي أحال الوضع في دارفور إلى المحكمة في 2005 يطالب السودان تحديدا بالتعاون مع المحكمة في اعتقال المشتبه بهم وتسليمهم للمحكمة، إعمالا للفقرة (ب) من المادة 13 من نظام المحكمة الجنائية الدولية، حيث تنص على: "للمحكمة أن تمارس اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة (5) وفقا لأحكام هذا النظام الأساسي في الأحوال الآتية: إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة على المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت".

لا يتمتع الرؤساء ورؤساء الوزارة وغيرهم من رؤساء الحكومات بالحصانة من الملاحقة القضائية، فينطبق نظام روما على جميع الأشخاص بغض النظر عن منصبهم الرسمي، كما أن أية حصانة يمكن أن يتمتع بها الشخص في دولته نتيجة لمنصبه لا تمنع المحكمة الجنائية الدولية من نسب الاتهامات إليه، والمادة 27 من نظام روما تنص صراحة على أن رؤساء الدول لا يتمتعون بالحصانة من الملاحقة القضائية.

تُدلل العديد من المنظمات الحكومية وغير الحكومية على أن محاولة التقاضي في قضايا المحكمة الجنائية الدولية أمام محكمة سودانية سيواجه عقبات كبيرة، فجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب لم تكن تُشَكل جرائم في القانون السوداني إلا بعد أكثر من خمس سنوات منذ بدء القوات الحكومية ارتكاب فظائع واسعة النطاق في دارفور، كما لم يُدرج القانون السوداني بعد عقيدة مسؤولية القيادة، التي تتوقف عليها إدانة القادة في كثير من الأحيان.

ختاما، يُعد تسليم المتهمين السودانيين لعدالة المحكمة الجنائية الدولية مطلباً مُلحاً من جانب الدارفوريين على وجه الخصوص لأجل تسوية ملف السلام الدارفوري، كما أنها تعد خطوة مهمة تخطوها الحكومة الإنتقالية في السودان لأجل تعزيز مصداقية السودان لدى الجماعة الدولية.