يُعد عام 2021 عاماً مشهودًا في تاريخ العدالة الدولية، والانتصاف لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعلى وجه التحديد ضحايا جَريمة الجرائم الدولية " الإبادة الجماعية"، حين أقَرت واعتذرت في ذلك اليوم المشهود كُلٍ من ألمانيا وفرنسا، لنامبيا ورواندا، عن جرائمهما الإبادة في الحقبة الاستعمارية بحق الشعبين المكلومين الناميبي والرواندي.

فبعد قَرنٍ ونيف على ارتكاب فظائع بحق شعبي هيريرو ناما في ناميبيا، اعترفت ألمانيا في الثامن والعشرين من مايو 2021، بأن تلك الأفعال مَثّلَت جريمة "إبادة جماعية" تم ارتكابها خلال فترة استعمارها لهذا البلد الأفريقي، وتَعهدت بتقديم مساعدات تنموية بأكثر من مليار يورو، في محاولة جادة من ألمانيا للتصالح مع ماضيها الاستعماري الذي دُون بِمداد دماء ضحاياها في القارة الإفريقية، وأتي الإقرار الرسمي الألماني بعد مفاوضات شاقّة بين البلدين استمرت أكثر من خمس سنوات وتمحورت حول الأحداث التي جرت إبّان الاحتلال الألماني للبلد الواقع في جنوب غرب أفريقيا، حين قتل وبين عامي 1904 و1908 قُتل عشرات الآلاف من أبناء شعبي "هيريرو وناما" في مذابح ارتكبها مستوطنون ألمان ،واعتبرها العديد من المؤرّخين أول إبادة جماعية في القرن العشرين .

في السابع والعشرين من مايو 2021، طَلب الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء زيارته لرواندا الصفح من الشعب الرواندي عن مسؤولية فرنسا إبان حقبة الرئيس ميتران عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ولم تقر فرنسا بمسؤوليتها عن الامتناع عن التدخل لمنع الجريمة، بين ليلة وضحاها، ولكن بعد أن حَمّلت الحكومة الروندية، في 19 أبريل من الشهر الماضي، فرنسا مسؤولية السماح بوقوع الإبادة الجماعية لشعب التوتسي في رواندا عام 1994، وأقّرت حكومة رواندا، في تقريرٍ رسمي، أن فرنسا كانت على عِلم بالتحضير لإبادة جماعية في البلاد، وتتحمل "مسؤولية كبيرة" عن السماح بحدوثها، وهي الجريمة التي نُحر فيها نحو 800 ألف شخص، معظمهم من أقلية التوتسي العرقية، وأصبحوا ضحايا للمجازر في رواندا ما بين أبريل ويوليو عام 1994.

تُتَوِج جريمة الإبادة الجماعية الهرم الكئيب للجرائم الدولية التي يرتكبها البشر سواء أكان ذلك في أثناء السلم أم في أثناء النزاعات المسلحة، وتَتَبوأ الجريمة قمة هذا الهرم بالنظر للخطورة والنتائج الوخيمة والآثار الكارثية التي تفضي إليها تلك الجريمة النكراء، حيث لا تقتصر هذه النتائج على اجتثاث أرواح البشر فقط، وإنما أيضاً تسبب جراحاً غائرة، وآلاماً مُبَرحة لأسر ضحايا الجريمة، وفضلا عما سبق، لم تكن الجريمة مثار اهتمام واستنكار القانون الدولي فحسب، ولكن سائر الأديان السماوية.

لقد تعرض الإنسان خلال الحقب والعصور المختلفة إلى وَيلاتِ القتل والتدمير والاغتصاب وإتلاف الممتلكات، وكان المنتصر يفتخر أنه أوقع بعدوه الفناء والدمار والإذلال، فكانت الحرب فخرا وقوة وسطوة، يتلذذ بها الطغاة العتاة من الحكام، ويتغنى بها كهنتهم من الشعراء والبلغاء، ونُصبت لها الأفراح وأنشدت لها الأناشيد والأهازيج.

لا مِرية أن جريمة الإبادة الجماعية، صدمت البشرية في ضميرها، واستهدفت النظام العام العالمي في جوهره، والكرامة الإنسانية في صميمها، نتيجة لهول الجريمة الشنعاء، وفداحة أفعالها النكراء، والتي دونت بمدادٍ أسودٍ في حافظة التاريخ، ويكفي الجريمة من تدليل أنها اى الجريمة تعكس انكار حق الوجود بالنسبة لجماعات إنسانية بأسرها.

تعنى الإبادة الجماعية وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة الصادرة في 9 ديسمبر عام 1948 لمنع جريمة الإبادة الجماعية والعقاب عليها أياً من الأفعال الآتية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عنصرية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه:

أ) قتل أعضاء من الجماعة

ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة

ج) إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً

د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب أطفال داخل الجماعة

هـ) نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.

لا جَرم أن الأسباب التي تزيد من خطورة جريمة الابادة الجماعية، وتجعلها - بحق - جريمة الجرائم الدولية، أن السلوك الاجرامي في جريمة الابادة الجماعية لا ينتهك قاعدة قانونية وحسب، لكن العديد من القواعد والحقوق القانونية، يأتي على قمتها الحق في الحياة أسمى الحقوق الاساسية للإنسان، فضلا عن أن ضمائر البشرية كلها تستشعر في وجدانها أن بقاء الجماعة - وطنية كانت أم عالمية - هي أهم المصالح الأساسية للبشرية جمعاء. ولما كانت قد حدثت أمثلة كثيرة لجريمة الإبادة الجماعية، إذ أبيدت كلياً أو جزئياً جماعات بشرية لصفتها العنصرية أو الدينية أو السياسية أو غيرها، ولما كانت معاقبة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية هي مسألة ذات اختصاص دولي، لذلك تؤكد الجمعية العامة أن إبادة الأجناس جريمة في نظر القانون الدولي يدينها العالم المتمدن، ويعاقب مرتكبوها سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء فيها، وبغض النظر عن صفاتهم- حكاماً كانوا أو أفراداً عاديين- سواء قاموا بارتكابها على أسس تتعلق بالدين أو السياسة أو الجنس أو أي أساس آخر.

يعترف القانون الدولي المعاصر بمبدأ مسؤولية الفرد الجنائية عن ارتكاب الجرائم الدولية، ويعتبرها من ضمن مبادئه العامة ويستوي في ذلك الجرائم التي يرتكبها الفرد بصفته الشخصية أو تلك التي يرتكبها بصفته مسئولاً رسمياً في هذه الدولة. وحين يرتكب الفرد جريمة دولية، ومنها جريمة الإبادة الجماعية، يدفع ذلك الفرد حين ثبوت مسئوليته والادعاء عليه بعدة دفوع قانونية، وذلك لنفى الجريمة عنه وإعفائه من المسؤولية عن ارتكاب الجريمة، وبالتالي مطالبته بعدم توقيع العقوبة عليه. إذاً فالقصد المباشر ضروري للجرائم ذات القصد الخاص، والتي منها جريمة الإبادة الجماعية.

يُشار في ذلك الصدد إلى أن اتفاقية الابادة الجماعية التي تحظر أفعال الإبادة الجماعية، لم تتحدث فقط عن قتل أعضاء الجماعة باعتبار القتل هو النمط الوحيد المستخدم لإبادة جزء أو كل الجماعة المستهدفة، لكن الاتفاقية، كما سبق أن وضحنا تحدثت أيضا عن إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، وإخضاع الجماعة لظروف معيشية يراد بها تدميرها كليا أو جزئيا، إن الباعث من التعداد الوارد في الاتفاقية المشار إليها، للأنماط أي الأشكال الخمسة للإبادة الجماعية، يعني الحفاظ على الجنس البشرى من الإفناء، بواسطة الأنظمة المستبدة، التي لا تقيم للإنسانية وزنا، ولا تنظر للجماعات البشرية في لحظة تاريخية نظرة إنسانية مجردة ومتجردة من أي تمييز أو ازدراء.

إن معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، تمنح المجتمعات القدرة على منع تكرار أحداث مماثلة للتي وقعت، وتسهل في حالات أخرى عمليات المصالحة وإعادة البناء حيث ينظر إلى معرفة الحقيقة على أنها ضرورة جوهرية لمعالجة التصدعات والانقسامات التي تحدث في السياقات المحلية في الفترة التي تلي إقصاء النظم الاستبدادية، وهذا ما ينطبق تماما على السياق الناميبي والرواندي السالف الإشارة إليهما.